هل ستدفع كورونا موريتانيا للاكتفاء الذاتي؟

 

شكل ظهور فيروس كورونا مصدرا لاختلالات كبيرة وأزمات عديدة اجتاحت العالم جراء انتشار هذا الفيروس الذي قلب رأسا على عقب الحياة اليومية لملايين البشر وشكل اختبارا لقدرة الدول في مواجهة التحديات غير المسبوقة التي عرفتها مختلف نُظمها الصحية والاقتصادية والاجتماعية.

كان اضطراب التجارة الدولية وسلاسل الإمداد الغذائية من أبرز تبعات هذه الازمة، مما جعل الحديث عن الأمن الغذائي يعود من جديد وبقوة، خصوصا بعد المخاوف التي أثارها وضع بعض الدول القيود على مبيعاتها الخارجية لإعطاء الأولوية للتموين المحلي. وتأتي هذه القيود في الوقت الذي تسعى فيه كبرى الدول المستوردة للغذاء إلى تعزيز احتياطياتها من خلال زيادة المشتريات من الخارج.

أمام هذا الوضع، لكم أن تتصوروا حجم الهلع والجوع والمرض الذي سيصيب مئات الملايين من الناس حول العالم ممن يعتمدون على الاستيراد في توفير قوتهم لو أن الازمة التي خلفها انتشار هذ الفيروس طالت أو ستطول، لا قدر الله.

وقد حذرت الأمم المتحدة من أن وباء كوفيد-19 يهدد بالتسبب بنقص الغذاء لدى مئات الملايين من الناس حول العالم، ومعظمهم في إفريقيا، ممن يعتمدون على استيراد المواد الغذائية والتصدير لدفع تكاليفها.

موريتانيا كغيرها من الدول الفقيرة ستكون الأكثر عرضة لخطر الثلاثي المدمر. إذ تشير الأرقام الى انه في العام الماضي (2019) استوردت موريتانيا من المواد الغذائية ما قيمته 638 220 مليون أوقية (أي ما يعادل 594,712 مليون دولار).

بلغ حجم الواردات من الحبوب وحدها 761 468 طن في نفس السنة، ووصلت كميات الخضروات المستوردة 177 490 طن، بينما بلغت الواردات من الفواكه 27 393 طن. وهذا ما جعل فاتورة استيراد هذه المواد ثقيلة، إذ بلغت كلفة الحبوب 75 287 مليون أوقية (أي ما يعادل 202,93 مليون دولار) سنة 2019، فيما بلغت فاتورة الخضروات 16 050 مليون أوقية (أي ما يعادل 43,26 مليون دولار)، أما الفواكه فبلغت قيمة الواردات منها 3 770 مليون أوقية (أي ما يعادل 10,16 مليون دولار).

بالتالي فالمسألة لم تعد، فقط، مسألة استنزاف مخزون البلد من العملات الاجنبية بل تجاوزت ذلك وأصبحت قضية أمن غذائي وتحصين ضد الجوع. فالمعلومات المتوفرة تظهر أن 73% من استهلاك البلد من الحبوب يتم تموينه من خلال الاستيراد سنة 2018 وانخفضت هذه النسبة قليلا سنة 2019 لتصل 69%، وتشكل نسبة الأرز منها 27% (المنتج الأكثر أهمية ضمن سلة غذاء المواطن الموريتاني). أما بالنسبة للخضروات، فقد تم تغطية 54% من استهلاك البلد بواسطة الخارج خلال سنة 2019. 

تكشف هذه المعدلات المتدنية للاكتفاء الذاتي من الحبوب والخضروات (31% و46% على التوالي) سنة 2019 مدى اعتماد البلد على الخارج من أجل تأمين حاجة المجتمع من الغذاء وفي نفس الوقت حجم التحدي الذي يتوجب على الدولة القيام به من أجل تحفيز وتمويل الاستثمار في قطاع الزراعة، من اجل زيادة الإنتاج ورفع هذه المعدلات وتعزيز الأمن الغذائي الذي أظهرت الازمة الحالية أنه أصبح مطلبا ملحا أكثر من أي وقت مضى، خاصة إذا كان البلد يملك من المقومات والإمكانات الموضوعية ما يكفيه ليس فقط لسد حاجاته من الغذاء فحسب، بل لتحقيق فائض يتم تصديره للخارج.

في الوقت الذي يجمع فيه المختصون على أن الإنتاج الغذائي يعتمد بصفة خاصة، وإلى حد كبير، على الظروف الطبيعية، الا أن الحالة الراهنة التي يعيشها البلد من عجز غذائي تعود إلى كون الإمكانات والموارد المتاحة غير مستغلة بصفة مثلى. فموريتانيا تتوفر على ما يزيد على نصف مليون هكتار من الأراضي الزراعية الخصبة، بالإضافة الى الموارد المائية الهائلة (حسب بعض المختصين فإن نهر السنغال يفيض منه سنويا 22 مليار م³ يتدفق منها ما يقارب النصف في المحيط دون استغلال) والظروف المناخية المساعدة وهذا ما يجعلها قادرة على الخروج من وضع المستورد الى تأمين حاجة البلد من المواد الأساسية كحد أدنى.

تتجلى أبرز مظاهر الفشل في الاستغلال الأمثل لهذه الموارد التي ينعم بها البلد أساسا، في انخفاض نسبة المساحة المزروعة مقارنة مع الأراضي الصالحة للزراعة، إذ لم تتجاوز هذه النسبة بشكل عام 43% خلال الحملة الزراعية 2018-2019، أما الزراعة المروية فقد بلغت نسبة الاستغلال فيها 53% خلال نفس الحملة، وهذا ما يظهر أن أكثر من نصف الأراضي الصالحة للزراعة خارج حيز الاستغلال.

هذا العجز عن استغلال هذا المورد الهام هو انعكاس لمشكل مزدوج. فمن ناحية، يعكس عدم منح الأولوية لهذا القطاع الواعد والحيوي ضمن مخططات التنمية الاقتصادية التي تتبناها الدولة. فعند القاء نظرة على الإنفاق الحكومي نلاحظ عدم تناسب المخصصات المالية الموجهة للقطاع الزراعي على مر السنين مع الأهمية التي يتوجب منحها إياه، وإن كان هناك تحسن ملحوظ في السنوات الاخيرة. ففي سنة 2020 بلغت حصة قطاعي التنمية الحيوانية والزراعة مجتمعين من ميزانية الدولة حدود 29 مليار اوقية قديمة وكان ترتيبهما الثامن بين القطاعات الحكومية بينما كانت حصته 26 مليار سنة 2019 وكان ترتيبهما العاشر.

من ناحية أخرى، فان هذه الأموال التي تنفق الدولة لاستصلاح الأراضي، شق قنوات الري، دعم الأسمدة والبذور وتوفير الآليات يذهب أغلبها الى رجال الأعمال والمزارعين الوهميين بدل مستحقيها، والأمثلة على ذلك كثيرة. فقد مُنحت صفقات استصلاح الأراضي الزراعية لشركات لا علاقة لها بالمجال البتة وتم بيع البذور والأسمدة في السوق السوداء وحصل بعض النافذين على قروض بمئات الملايين دون أن يزرعوا هكتارا. 

قصص كثيرة ومتداولة عن الفساد في القطاع الزراعي، لعل من أغربها ما حصل سنة 2010، حين ابتعث مجلس إدارة القرض الزراعي لجنة فنية من أجل استرجاع 2.882.276.504 أوقية كان قد اقترضها لمجموعة من المستثمرين في الزراعة المروية، إلا أن هذه اللجنة لم تفلح في استرجاع الاموال ولم تجد أثرا للاستثمار على الارض.

وخلص تقرير البعثة إلى أن المسألة لا تعدو كونها عملية اختلاس منظمة ومكشوفة، تم فيها اعدام الوثائق والمستندات مما يشير الى أن إدارة القرض الزراعي كانت شريكا في العملية.

تظهر عدة مؤشرات أن المبالغ التي ضختها الدولة في قطاع الزراعة على الرغم من أهميتها لم تؤت أكلها نتيجة لما سبق ولعدم فعالية السياسات المتبعة وكذلك غياب رؤية واضحة المعالم للنهوض القطاع الزراعي، مما خلف نوعا من التذبذب والاضطراب على مستوى النتائج المحققة، سواء تعلق الامر بالمردودية أو المساحة المزروعة.

فالمتتبع لمنحنى مردودية الزراعة المروية على مدى السنوات الخمسة الاخيرة يلاحظ دون عناء، التذبذب الكبير الحاصل على مستوى هذه الإنتاجية، وهو ما يعكس حالة غير طبيعية وغير مبررة، خاصة إذا تعلق الأمر بهذا النوع من الزراعة (المروية) التي تتوفر على مورد مائي ثابت عكس الزراعة المطرية المرتبطة بالظروف المناخية والتساقطات المطرية.

التذبذب نفسه هو ما يطبع مؤشر استغلال الأراضي الزراعية. حيث تبين نتائج المسح الزراعي لدى الأسر والمستغلين الزراعيين تقلص المساحات المزروعة (بالحبوب اساسا (وتراجع حجمها بدلا من زيادته خلال بعض الحملات الزراعية، فمثلا تراجعت المساحة المزروعة بنسبة 13% خلال الحملة الزراعية (2016-2017) وفي الحملة الموالية تفاقم هذا التراجع لتصل نسبته خلال الحملتين 31%. المساحة المروية المزروعة لم تكن بمعزل عن هذا التراجع، حيث بلغ اجمالي تراجعها 41% خلال الحملتين 2015-2016 و2016-2017 مقارنة بالحملة 2014-2015 (الشكل 1).

هذا التراجع في المساحة المزروعة (المروية بالذات) يشكل مفارقة غريبة، فبدلا من زيادة هذه المساحة حملة بعد حملة نجدها تتقلص بعض الأحيان. التفسير الأرجح لهذه الظاهرة هو طغيان الارتجالية على السياسات المتبعة في القطاع وغياب استراتيجية بعيدة المدى تهدف الى الزيادة المضطردة في نسبة الاراضي الزراعية المستغلة وتتخذ من المتابعة والتقييم منهجا.

أمام هذا الوضعية، تتأكد صحة المقولة التي أطلقها أحدهم واصفا موريتانيا بأنها البلد الذي لا يجيد استغلال ثرواته الطبيعية، فكيف لمن يملك كل هذه المقدرات من مساحات زراعية خصبة ومياه وفيرة وهو يعتمد على الخارج لإطعام شعبه القليل العدد.

المسألة إذن، ليست ندرة أو شح في الموارد أو عجز في الإمكانات المالية، وإنما هي بالدرجة الأولى فشل في السياسات الزراعية، سوء استغلال لما هو متاح من موارد وترتيب أولويات.

إن أولى الدروس المستخلصة من الأزمة التي خلفها انتشار فيروس كوفيد 19 هي أن الاعتماد على الذات لتوفير الغذاء أصبح أمرا ضروريا، وبالتالي أضحى من اللازم استثمار الفرص الهائلة التي يتيحها القطاع الزراعي وبناء استراتيجية جديدة للقطاع توقف هدر الموارد وتُحل الإنتاج بدل الاستيراد وتحقق الاكتفاء الذاتي.

هذه الاستراتيجية ينبغي أن تتمحور حول استصلاح الأراضي الزراعية، شق وتنظيف قنوات الري، حماية المزارع من الآفات الزراعية، دعم المنتوج المحلي، تفعيل دور الارشاد الزراعي والبحث العلمي، توفير القدر الكافي من الحاصدات، التأمين ضد الخسائر المتعلقة بالأحوال الجوية، انجاز وترميم منشآت التحكم في مياه الامطار وإدخال المكننة في الزراعة المطرية الزراعية...

إن نجاح استراتيجية يُنتظر منها تأمين حاجة البلد من الحبوب والخضروات (على الأقل) يتطلب منح القطاع الزراعي الأولوية في الانفاق وانتهاج حسن التدبير ونبذ التبذير. ولن يتأتى ذلك إلا بوجود إرادة سياسية قوية تؤمن بضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتي وتعزيز الأمن الغذائي.

هذه الإرادة يبدوا أنها حاضرة عند رئيس الجمهورية الحالي، حين رسم هدفا سيعمل على تحقيقه عند نهاية مأموريته وهو تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الأرز وإنتاج القسط الأوفر من حاجة البلد من القمح والخضروات. كما ورد هذا الهدف في برنامج الحكومة الذي عرضه الوزير الأول الحالي أمام البرلمان سبتمبر 2019. الا أن الازمة الحالية كشفت أن ترتيب الأولويات يجب أن يعاد من جديد وأن التحرك نحو الاكتفاء الذاتي يجب أن يكون أسرع وأن الجهود في سبيله يجب أن تتضاعف وأن الزراعة يجب أن تصبح أولوية الأولويات. لا شك ان الحكومة قد أدركت ذلك فهل ستُسخر الموارد المالية الكافية وتسهر على المتابعة في التنفيذ وتتسلح بالصرامة في معاقبة المقصرين؟

 

المصادر:

  1. قانون المالية الاصلي لسنة 2019 وسنة 2020؛
  2. إدارة الإحصاءات والاعلام الزراعي، وزارة التنمية الريفية؛
  3. www.ons.mr/index.php/publications/conjonctures/22-notes-de-commerce;
  4. htpps://rimnow.net/w/?q=node/5840

 

 

د. مولاي ولد أب ولد أڴيڴ

اثنين, 08/06/2020 - 14:07