تصحيح المسار

كنت يوم الأحد الماضي في مدينة أطار فإذا برجل صالح يسير و بجبنه رجل يبدو أنه يحتاج مساعدة فقدم له الرجل الصالح مساعدة لم أتمكن من رؤيتها و هو يقبض عليها بيده خوف أن يراه أحد حتى وضعها في جيبه، عرفت الرجل الصالح و تذكرت مكانته لدى بعض من قضو ممن نسأل لهم الرحمة، فبادرته بالسلام و عرفته على نفسي و على من أحبوه و أحبهم في هذه الدنيا فذكرت له ممن ذكرت جدتي رحمة الله عليها عائشة بنت الطائع، رحب بي كثيرا و دعا لها بالرحمة، و من ثم تبادر إلى ذهنه سؤال جاء في سياق التعريف الذي قدمت له فقال لي : "مسكين صاحبنا هذا الذي غادرنا كم كشفت له من فضائح"، و استرسل يقول : "أما خالكم فلقد تعجب البعض منهم يقول : "أما معاوية ولد سيدي أحمد الطائع فلم يكشف بعد مغادرته للسلطة منازل و لا قصور و لا أموال لا في الخارج و لا في الداخل، حتى أن حسابه الذي كان يتلقى عليه راتبه كان مدينا بمبلغ زهيد فترة خروجه من الوطن".، انتهى الاستشهاد.
ما الذي دفعك إلى هذا يا ابن عبد العزيز ؟
لماذا مرغت أنوفنا في التراب أنت و مقربوك و أقاربك و أصدقائك و أصدقائهم، لماذا نهبت خيرات هذه الأمة و دمرت مؤسساتها و بنيت مجدا مزيفا هاهو زيفه ينجلي و لما بعد يمضي الحول على رحيلك ؟ 
أهكذا يكون فعل الرجال ؟ 
كنت تدعونا جهارا نهارا إلى ربك، إلى الصدق و الأمانة و كنت تقول بمحاربة الفساد و كنت حتى و أنت تحارب الفساد تنهب الخيرات و كنت تطعن في شيوخنا من أهل السياسة و التجارة و العلم، فلم تبقي لنا علما و لم تبقي لنا منبرا و لم تبقي لنا زاوية و لا مرجعية لا دينية و لا سياسية و لا أدبية و لا ثقافية حتى دمرتها و استبدلتها بأقل الناس شأنا و أكثرهم نهما و أكثرهم سوء طالع.
وجهت الرأي العام بكذب و خاطبتهم بشعارات ثبت زيفها، فجعلتهم يصدقونك و أنت الكذوب، و جعلتهم يأتمنونك فصاروا كالشاة تأمن الذئب و هو آكلها.
كنت تعلم أن الشعب يريد محاربة الفساد و الفقر و الجهل، فرفعت الشعارات و تركت العمل ...
عندما يكون الرأي العام متجها نحو أمر ما و يسير هرم السلطة في اتجاهه فإن ذلك يصبح تصحيحا حقيقيا و فعليا لمسار الأمة و توجهها العام، فلا خير في حاكم يخالف إرادة شعب انتخبه.
كذلك هي الوضعية الحالية لموريتانيا فقرار الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني السير في اتجاه تصحيح المسار يعتبر قرارا معززا بإرادة شعبية قوية تريد معاقبة المسفدين و تكليف المصلحين بشؤون المواطنين، و كل تصحيح للمسار يعطي صورة حسنة عن الدولة و النظام و يحدد معالم مستقبل شعب بحاله و يزيد من فهم و وعي الشعب بضرورة التمسك بكل مسار صحيح و تقديم العون لكل رئيس يسير في ذلك الاتجاه.
المسار الصحيح لا يتجسد بخطابات سياسية قوية مشحونة ببارود الحماسة و غزارة اللغة و معاني الحكمة و ألفاظ السلطة بما حوت من عزم و قوة. إطلاقا، فلو لم يقتل مثلا الحجاج لما صدق أهل العراق خطابه الشهير الذي قاله يوم نزل بهم حاكما بأمر أمير المؤمنين، "إني أرى رؤوسا أينعت و حان قطافها" تلك عبارة قوية و تهديد صريح و لا مجال للعدول عنه و النكوس بعد ذلك لأنه جسد السياسة العامة للحاكم يوم حكم و وضح أن لا مجال لمخالفته.
تماما ينطبق ذلك على خطاب أي رئيس جمهورية يقول بمحاربة الفساد و فصل السلط و اتاحة الفرصة لأجهزة الدولة للقيام بما يجب و يحتمه دورها و سبب وجودها قائمة.
خطاب رئيس الجمهورية الذي أكد فيه أن لا تراجع عن محاربة الفساد كمبدأ و إرادة سياسية حقيقية تتجسد في احترام مبدأ الفصل بين السلطات و استقلالية الجهازين التشريعي و القضائي فيما بينهما و عن الجهاز التنفيذي كذلك، لم يكن ليصدقه عاقل لو لم يترك الرئيس ـ حسب شهادة نواب كثر "أعرفهم" شخصيا ـ الجهاز التشريعي يقوم بدوره الرقابي و يحافظ كرئيس للجمهورية على توازن السلط، كذلك لا تتجسد أيضا تلك الإرادة لو لم تتجسد فعلا و قولا ـ و حسب شخصيات قضائية كثيرة أعرفها ـ إرادة صادقة لدى الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في ضمان استقلالية القضاء.
تلك هي نقاط قوة ولد الشيخ الغزواني، و تلك لعمري كانت هي نقاط ضعف نظام ولد عبد العزيز، فلا ينسى أحد ما أبانه ذلك النظام من تسلط و تدخل في صلاحيات الجهازين القضائي و التشريعي، فلا يعلو صوت نائب إلا وظف ليخرج من البرلمان و لا يعلو صوت قاض أو يتخذ قرارات من صميم تخصصه و طبقا لواجبه كقاض عادل غير منحاز و لا متجاسر، باحث عن الحقيقة و مؤمن بالحق و العدل، إلا حول إلى أقصى البلاد و أبعدها و الأمثلة على ذلك كثيرة، تشهد بها محكمة الشغل و قاضيها المنفي من الأرض الرئيس إدوم و يشهد بها قضاة شباب جاءوا مؤمنين بالحق و العدل فتم تحويلهم من مناصبهم إلى مناطق بعيدة نائية ليتسنى لكل من يأتمر بأمر السلطان الغاصب الغاشم و حاشيته الظالمة المستبدة التحكم في القضاء جالسا كان أو واقفا.
تلك النقطة ظهرت بينة في عدة أوقات حتى وصلت إلى إقالة رئيس المحكمة العليا و الدوس على آخر جسر من جسور العدل و تحطيمه بأحذية خشنة لا تهاب و لا تؤمن لا بقانون و لا تبحث لا عن عدل و لا مساواة فقط إملاءات فخامته لا غير.
تلك كانت أجزاء من كثير الأفعال المناقضة للأقوال مما جعل الناس تؤمن بالباطل و تكره الحق، و جعل العدل مطية لنزوات السلطان، و جعل الحق يغوص في الوحل فلا تعرف له وجه.
بني كل شيء في ذلك العهد على الباطل و هدم كل منبر من منابر الحق حتى صار الرجل يخاف في بيته أن يتحدث عن الحق لعله خاف أن يرى أبناءه مشردين أو أن يرى نفسه على قارعة الطريق يتأسف على امتطاءه علياء الحق و سموه عن الباطل و قاعه السحيق.
الآن فقط حق لمن يريد رؤية وجه الحق المطموس أن يدعم القضاء و يدعم رئيس الجمهورية و يهنأه على اعتداله و رويته و يهنئه على خطواته الشجاعة التي خطاها نحو المجد و نحو تبرأة ساحة نظامه ممن شابتهم شائبة الفساد و التغطرس و الظلم في عهد ولد عبد العزيز.
تلك لعمري هي خطوات في صميم تصحيح المسار، فالذي أخرج الجنود من الثكنات عام 2008 لم يكن توريث ولد عبد العزيز في عصر الجمهوريات المزدهرة في أنحاء العالم، و اندثار و انحسار تحكم السلط الملكية في الدول، على الاطلاق، فوعي النخب العسكرية في هذا البلد وصل درجة من اليقين بأهمية الدولة و مؤسساتها و قيمة العدل و فوائد الحكم الرشيد العادل الهادئ الرزين، تلك النخب العسكرية التي شكلتها الدولة منذ نشأتها إلى يومنا هذا لم تكن يوما لتخرج من ثكناتها من أجل شخص لا يستحق حتى أن ينضم إلى الجيش أحرى أن يدخل القصر الرئاسي.
لكن مع الأسف خاب ظن كل الذين راهنوا على ولد عبد العزيز الذي وجد فرصة ليكون رئيسا متميزا في إفريقيا عصامي قادم من قاع الفقر و الجوع و الحرمان و الهشاشة الاجتماعية إلى طور بناء دولة حديثة يفكر رئيسها في فقرائها و معيشتهم لا في العيش على حسابهم و نكران حقهم في العيش الكريم فأقل ما يرجى من حاكم أن يطعم من جوع و يؤمن من خوف قدر المستطاع لا أن يملأ جيبه و بطنه و حوله شعب من الجياع.
إن مدى تأثير قرار الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الشجاع في اقالة الحكومة بعد ذكر اسم الوزير الأول و 7 من الوزراء في تقرير البرلمان يتخطى البعد السياسي إلى أبعاد أخرى تجسد في صمت لواقع جديد سيجعل كل نخبوي غير خادم لوطنه عرضة للمسائلة أمام القضاء عن أفعاله الشنيعة من خيانة للأمانة و تعد على المال العمومي.
و إن تصريح الرئاسة الذي حددت فيه أسباب اقالتها للوزراء جاء أيضا ذا أبعاد معنوية كبيرة و رسالة قوية تلقاها الشعب بفرح منقطع النظير فجعل منها فرحتين، فرحة اقالة المسؤولين الذين يشملهم التحقيق القضائي كدليل على استقلالية القضاء و فرحة عدم اقصائهم ان لم تثبت ادانتهم في فعل مخل بشرف الوظيفة السامية التي كانوا يتقلدونها.
كياسة ولد الغزواني و انتظاره حتى انتهاء التحقيق و تلبيته لمطلب سياسي لا دستوري و لا قانوني، جاءت ذات وقع قوي على كل مناد بفصل السلطات، و كل راغب في احقاق الحق و ضمان استرجاع اموال الشعب ان اثبت القضاء اخذها بطرق ملتوية ضد مبادئ الجمهورية المجسدة في دستورها و ضد القوانين الناظمة للعمل العمومي بشكل عام.
هنا فقط يمكن القول أن ولد الغزواني بدأ يسير بخطى ثابتة نحو تجسيد إرادة الشعب من خلال ضمان استقلالية السلط و من خلال التجاوب الايجابي مع عملها تنفيذا لصلاحياته كرئيس ضامن للسير المضطرد لمؤسسات الدولة و أجهزتها المختلفة.
فهنيئا لكم فخامة رئيس الجمهورية، لكن لا تملوا السير فالطريق طويل و شاق و ما تكرسونه اليوم ينفع في المستقبل و ما تجسدونه من افعال حميدة سيضمن لكم في مأموريتكم هذه و تلك التي تليها ان تقوموا بالقسط و تعدلوا بين الناس و تضمنوا خروجكم برأس مرفوع شامخ متعال على الدسائس و نواقض الوطنية و الشرف، فلا تتراجعوا أبدا عن ذلك.
ذ. محمد فاضل الهادي

خميس, 13/08/2020 - 06:25