سمعنا كثيرا، السيد محمد ولد عبد العزيز يتبجح، في مؤتمرات صحفية، بثروته الطائلة و يتحدي أي كان أن يثبت أن لها صلة بأموال الشعب الموريتاني، و يرفع سقف التحدي إلي أن يَنْعَتَ بيده قصر العدل لمن له القدرة علي جره إلي المحاكمة، و لم يبقي له إلا أن يقول لنا "إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي".
فهو حقيقة و حكما، قارون عصرنا الذي جمع في طرفة عين من المال ما لا يعد و لا يحصي "بفضل كيمياء" لا يعلم سرها إلا هو، بينما كان لا يمتلك حتى عهد قريب إلا "حفارة" حسب قوله في مؤتمر صحفي عقده قبل سنين في انواذيب، وهبها للإعانة في سقاية المحتاجين.
و يصف، في أول مؤتمر بعد مغادرته السلطة، من رموه بالفساد، ب"هْدادَتْ الحلمة اعل اشراطه"، و في الحقيقة، هذا من أروع الأمثال المأثورة في اللهجة الحسانية للرمز إلي التهديد بالانتقام المخيف، و المدلول هنا ليس الاستبراء من التهمة و إنما إطلاق تهمة مضادة لمن يتهمه بما ينسبوا إليه من سيئ الأعمال.
لكن اللهجة الحسانية لم تقف عند الإشارة إلى الوصف و تسمية الأشياء بغير اسمها، تلميحا أو إيحاءا، و عند شناعة الأمر أو شينته، تخرج عن المألوف لديها من "الكياسة الدَّيْمانية" الذي يطبعها، و تتوعد أيضا بما يتوعد به ولد عبد العزيز أعداؤه، و تقول في حكم رهيب "أَمْ السارقْ ما تَمْ أَلاَّ أَمْزَقَرْتَه".
فالعقل لأسباب موضوعية، يأبى أن تكون هذه الثروة غير مرتبطة، ارتباط الجنين بأمه، بالسلطة التي اختطفها ولد عبد العزيز في عام 2005 أمام احمد ولد داداه، ثم اغتصبها جهارا نهارا 2008 ممن انتخبه هو أولا، ليفرضه علي الشعب الموريتاني.
فالسلطة و المال العام، و كل ما يترتب عليهم من ثروة أو جاه أو وسيلة تَكَسُبٍ، فهو كله ملك للشعب، و يجب رده إلي الخزينة العامة، كما كان يفعل السلف الصالح، المتعفف عن أكل المال الحرام.
فولد عبد العزيز الذي يُروي في الحديث الصحيح، انه كدَّ لإشعال نار حمامٍ بحطب جمعه علي ظهر سيارات الجيش، ليجني منه مالا زهيدا، يدرك قبل غيره، أن السماء لا تمطر ذهبا و الزرع لا ينبت الياقوت والمرجان، كما يدرك أن كلَّ مالٍ له سببٌ، إما حلال و إما حرام، و إن لم يكون له سبب، و هذا وارد في حالته، يسمي "ثراء بلا سبب"، و هو في كلتا الحالتين يجب حجزه و إرجاعه إلي بيت مال المسلمين.
فالثراء الفاحش ظهر علي ولد عبد العزيز، و تحدث عنه القاصي و الداني قبل أن يعترف به هو علي نفسه، و من ثم أصبح فرض عين علي كل المواطنين و خاصة العلماء أن كانوا يخشوا الله، أن يصدحوا بالحق و يقول كلمة الله و رسوله في هدر المال نصرة لدينهم و للمؤمنين، و ابرءا لذمتهم من هذه الحقوق الذي جعلها الله في أعناقهم، و أولها رشد ولي الأمر فيما يلزمه به الشرع من فرض كفاية، عنا وعنهم، بمساءلة كل واحد "من أين لك هذا؟"،
فهذا المبدأ تراثي- كوني، انطلق حين صعد يوما، أفضل و أصدق خلق الله، رسوله صلي الله عليه وسلم، علي المنبر ثم قال: "ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك و هذا لي؟ فهلا جلس في بيت أبيه و أمه فينظر أ يهدى له أم لا؟"، فلا تعقيب علي حكم رسول الله الذي طبقه، من بعده، خليفته عمر رضي الله عنه علي ابنه، ثم علي صهر رسول الله، عمر ابن العاص، كما طبقوه الصحابة علي الخليفة نفسه حين لاحظوا ا ن ثيابه كان أطول من ثيابهم.
و عليه فالشجار الذي دار بين بعضنا حول مادة من الدستور تحمي رئيس الجمهورية من المتابعة خلال ممارسته لمهامه، أصبحت اغرب إلي الحوارات البيزنطية التي كانت دائرة بين جنرالاتها في حين كانت بيزنطي محاصرة و علي وشك السقوط بين أيدي عدوها.
فهذه الحماية التي يتحدث عنها البعض كصك براءة مدي الحياة أو كوكالة مفتوحة للبطش و العبث بمقدرات هذا الشعب الأبي و رموزه دون محاسب، لا يمكن لها أن تكون كذالك في أي حال من الأحوال، لا في تصور المشرع الذي كتبها و لا في ذاكرة الشعب الذي أجازها، بل لا تستقم في وجه مواد أخري من نفس الدستور.
فالمشرع الفرنسي الذي كان سباقا في وضعها، فهم أن الرئيس إنسان ذو عواطف، يقوي أحيانا و يضعف أحيانا أخري، و انه ميالا لحب المال و الجاه و السلطة، و لذالك ألزمه بالتصريح علانية بممتلكاته عند الترشح و التصريح بها عند الخروج من مهامه، سدا للذريعة و حفاظا علي أموال الشعب من تلك النزعة البشرية في النهب.
و هذا يعني أن هناك سلطة رقابة علي ممتلكات الرئيس الذي يجب أن يخرج بما دخل به فقط، أو يبرر ما استفاد به من زيادة في المال.
ثم وضع المشرع مبدأ عام آخر يصب في نفس السياق، يقول أن "لا أحدا فوق القانون"، ثم أضاف مادة أخري تكرس مبدأ تساوي جميع الموريتانيين أمامه، و لم يجعل لهما أي استثناء، حتى لصالح رئيس الجمهورية سابقا أو لاحقا، و هذا يعني بكل بساطة أن كل ما نص عليه القانون من جرائم آو جنح و جعل لها عقابا، يجب محاكمة كل من اغترفها بغض النظر عن صفته و رتبته، حتى و لو كان رئيسا للجمهورية.
و لقراءة النصوص القانونية بصفة صحيحة، يجب أن لا نتوقف عند القراءة الأولية السطحية، بل يجب تأويلها علي جميع الأوجه و إخراج المبدأ الذي تضعه و عكسه، و الإستثناء و عكسه، و مجال تطبيقها و عكسه، و كذالك أوجه المقارنة مع النصوص الأخرى، ثم مدي تناسقها مع الترسانة القانونية، فحينئذ سيتضح المغزى و يُرفع اللبس.
فالمقاربة السليمة لفهم هذه المادة، يجب أن تبدأ أولا بتحديد مهام الرئيس التي يمنع فيها الدستور متابعته، ومدة هذه الحرمة أو الحصانة، و هل هي مطلقة أم مقيدة، و لا شك أن تلك المهمة التي اختاره الشعب لها من بين عدة مرشحين، لا يدخل فيها التكسب و النهب و الإثراء غير الشرعي و الفساد الخ...، و يجب معاقبته عليها إن حصلت، لسوء استخدام السلطة التي منحه إياها الشعب لتدبير أموره ،و علي رأسها محاربة الفساد الذي كان من شعاراته الإنتخابية، وسن له قانونا خاصا لا يَستثني هو الآخر رئيس الجمهورية من سلطانه.
و ما دامت المادة 93 من الدستور الموريتاني هي نسخة طبق الأصل من المادة 68 من دستور الفرنسي، وجب الرجوع إلي الأصل في تأويل هذه المادة و التذكير أن أول مبدء استخلصوه القانونيون الفرنسيون هو أن هذه المادة تحمي الوظيفة و لا تحمي الشخص، و أن الرئيس يتمتع بعدم المسؤولية بصفة أزلية بنسبة للأفعال الضرورية لممارسة مهامه، حتى و لو كانت تلك الأفعال ذو طابع جنائي، و لا يمكن متابعته بسببها لا في مأموريته و لا بعدها.
لكن الرئيس يبقي مسئولا عن أفعاله الأخرى التي لا تدخل في إطار مهام وظيفته الرئاسية، و يمكن لكل ذي صفة أو مصلحة متابعته أمام المحاكم بعد انتهاء مهامه، مع حق النيابة في رفع الدعوي العمومية ضده. و تقييد الدعوي هنا زمنيا يستجيب فقط لمبدأ فصل السلطات. و يمكن مطالعة هذه القراءات من خلال قرار المحكمة العليا الفرنسية في قضية "برازاشير" صادر 10/10/2001، و كذالك قرار المجلس الدستوري الصادر في الموضوع 1999، مع التنبيه إلي أن هذه الهيئات، علي رغم من اختلافها حول الاختصاص في المحاكمة، اتفقت علي إمكانية متابعة الرئيس جنائيا.
فموقف الإدارة العامة لشملك اتجاه ولد عبد العزيز في ما يخص تسديد استهلاكه غير الشرعي للكهرباء في منازله و مصانعه، و قطع تزويدها بالطاقة و تهديده بالمتابعة، يعتبر إجراء سليم من الناحية القانونية، و يشكل خير دليل علي عدم جدوائية مادة الدستور المذكورة، كما أن عدم دفع "الرئيس" بهذه المادة أو التمسك بها ضد هذا الإجراء يعتبر اعترافا منه بعدم جدوائيتها في حالة الالتباس هذه. فإذعانه الخافت لطلبها بالتسديد كان رد حكيم، يخشي صاحبه فيما يبدو، من سلطان قانون قد قدمه هو للبرلمان ضد سرقة الماء والكهرباء دون تقدير منه لسخرية القدر، إذ أتهم للأسف معارضين بارزين بسرقة الماء و الكهرباء، فانقلب السحر علي الساحر. فلماذا لم تشفع له إذا مهامه الرئاسية ما دامت ذالك الاختلاس للكهرباء تم في فترة رئاسته؟ هذا غيض من فيض لم يسلم منه حجر و لا شجر.
و أجمل ما قيل في هذا المقام القانوني بتعبير وجيز، ما جاء علي لسان الدبلوماسي اللامع احمدو ولد عبد الله حين قال أن "الرئاسة ليست غنيمة حرب".
فالتهرب من المسؤولية و إطلاق الاتهامات المضادة دون بينة و التهديد و الوعيد، و الاختباء وراء شعارات كالبينة علي المدعي و إلي ما ذالك من الحجج الواهية، ليست أنجع وسيلة دفاع و لا إقناع، بل تنم عن جبن و ضعف في مواجهة الاتهام تماما كما حصل مع شركة الكهرباء، و ربما يحصل غدا مع شركة الماء أو شركات أخري.
فما لم يدركه ولد عبد العزيز هو أن الخصومة هنا، ليست خصومة شخصية حتى تكون البينة علي المدعي و اليمين علي من أنكر، و إنما خصومة مع شعب مخدوع و دولة منهوبة، و عليه فالبينة تقع علي من ظهر عليه الثراء الفاحش بعد خروجه من الرئاسة، و البينة علي من اعترف علي نفسه بهذا الثراء الفاحش مكتفيا بنفي علاقته بالمال العام دون الإتيان بالدليل علي ذالك، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، و البينة علي من اخفي حصر ممتلكاته عند الدخول و عند الخروج متحججا باستشارة شفهية من رئيس المحكمة العليا آنذاك قد تكون سيئ فهمها من المعني، محمد ولد عبد العزيز.
و مهما يكون من أمر، فعناصر الاتهام كانت مكتملة قبل هذه اللجنة البرلمانية التي لا شك أنها أضافت معلومات نوعية في هذا الموضوع؛ فعلامات التباهي ثم اعتراف ولد عبد العزيز علي نفسه بالثراء الفاحش يكفي وحده كوسيلة إثبات من الناحية القانونية لتلك الجرائم و إدانته، ناهيك عن البعض منها الذي ما زال ينفذ حتى يومنا هذا و بعضها الآخر الذي ما زالت آثاره شامخة للعيان أين ما ولوا وجوههم، فوق الأرض وتحتها، و علي سطح البحر و في أعماقه، و في السماء، .... و في ما لا تعلمون.
فغياب دراسات جدوائية المشاريع المكلفة التي بدد فيها ولد عبد العزيز أموال الشعب و أثقل بها كاهله لعقود قادمة بالديون، و طريقة منحها، لهي دليل آخر علي جرائمه التي لا يراعي فيها إلا ما ستدر عليه من نفع فقط و لو كان علي حساب المصلحة العامة.
سئم الشعب من تعداد تلك المشاريع الخسيسة التي تعيش كلها علي دعم مالي من الدولة بسبب عجز ميزانياتها و التي لا حصر لها، فالمشاريع تصمم لتضر الربح و منفعة علي الشعب و ليس لتعيش علي حسابه، كما سئم من تعداد تلك الانجازات الاستراتجية في نمو الدول التي هدمها ولد عبد العزيز و أذياله و أعلنوا إفلاسها، و حولوا عمالها و عائلاتهم إلي مساكين و متسولين.
و لولا ضعف تكوين الرجل ثقافيا الذي أنفضح، في مؤتمر صحفي، من خلال تهجمه علي الآداب و الفنون الجميلة، لرميناه جزما بنظرية المؤامرة ضد الكيان الموريتاني، التي تبدو في كثير من جوانبها في أعماله الهمجية و التخريبية لآثار تاريخ الدولة الموريتانية العصرية و لمقوماتها الاقتصادية و حتى بنيتها الاجتماعية و مناهجها الدراسية،
لكن الوقوف عند ولد عبد العزيز وحده، سيكون تقصير في حق الشعب الموريتاني، لأن كل ما ينطبق علي رئيس الجمهورية من التزامات في الكشف عن ممتلكاته عند تسليم المهام و عند نهايتها، و ما يترتب علي ذالك من المراقبة و المعاقبة، ينطبق أيضا علي كل الموظفين السامين، و لا شك أن بعضهم شريك في تلك الجرائم بصفة أو أخري، إما في التخطيط أو التنفيذ، و قد لا تخلو تلك الشراكة في الجريمة من خصوصيين أيضا يجب التشهير بهم. فموريتانيا، في عهد ولد عبد العزيز، كان لها حظا وافرا من اسمها العتيق الذي عرفت به، "ارض السيبه".
فالترقية في الوظائف و الإقالة منها، كانت رهينة التفاعل مع البرنامج الجنوني الذي وضعه ولد عبد العزيز لنهب أموال هذا الشعب المغلوب علي أمره، فنظرة بسيطة علي من اعتلي و ارتقي المناصب تدريجيا، و علي من تم عزله و ودع في غياهب النسيان، تثبت أن التمييز عنده كان علي هذا الأساس.
و لا أرى لولد عبد العزيز في دفاعه أمام المحكمة من ظروف مخففة لبطشه و طيشه، غير نوبات جنون العظمة التي تطوفه أحيانا، و كان آخر تجلياتها المؤتمر الصحفي الذي عقده في الأيام الأخيرة من حكمه، في الهواء الطلق، محاطا بأفراد عائلته، "الأمراء الجدد"، في الصف الأول أمام الحكومة و المستشارين، علي غرار بروتوكول العائلات المالكة لرقاب شعوبها أبا عن جد، في حفل تقديم أبنائها للرعية.
و لا شك أن طلب احد النواب المحترفين بتحويل الجمهورية إلي مملكة لولد عبد العزيز و أبنائه من بعده، كان له صدي قوي في نفس الرجل و تأثير عميق في أعماله، فقد قيل قديما أن شيطان الإنس اخطر من شيطان الجن.
لكن خروج ولد عبد العزيز هذا، بأجمل حليته علي الملأ مباشرة عبر الأثير، محاطا بزينة الدنيا، المال و البنون، كان اقرب ما يكون إلي خروج قارون علي قومه قبل يخسف الله الأرض به، فقصة قارون هي قصة الإنسان في كل زمان ومكان، كما هي قصة فرعون التي تتكرر أيضاً في كافة الأمكنة والأزمنة.
بعد فشل فريق برلماني سعي جاهدا لمأمورية ثالثة، أسدل الستار علي ولد العزيز و حكمه في يوم و شهر كان يظنه مباركا عليه، و ظهر انه كان نحسا علي سلطانه، و سلط الله عليه فريق برلماني آخر ممن أذاقهم المر، أتي بفضائحه المدوية، وحرمه الله، في الشدائد لحكمة بالغة، من عون أخيه الذي تبرأ من أعماله الشقية ، لكن عيب الدار علي من بقي فيها، و لم يبقي فيها إلا العدالة لتقول كلمة الفصل.
اختم بالصلاة و السلام علي النبي و علي صحبه ومن اقتدي بهدييه إلي يوم الدين.
محمود ولد ازوين ولد جامع،
أول مدير عام للوكالة الوطنية للطيران المدني.