مذكرات مسفر:
تقول الدكتوره باته هذه القصيدة كتبتها بعد أحداث التسفير 1989م؛ وفي نوفمبر من نفس السنة ألقيتها على مسرح الرشيد ببغداد في مهرجان المربد أمام جمع يعتد به من الشعراء والأدباء والنقاد، وأحدثت ضجة مهولة في القاعة، وصعد الفيتوري المنبر ليقول لي: "أطربتني يا بنت شنقيط".
ووقف وزير الثقافة والإعلام العراقي لطيف انصيف جاسم وجماعته وهم يصفقون ويقولون:
" صحيح.. صحيح.. نحن معك يا مباركه، ولست وحدك".
وبالفعل كانوا معي ومع الوطن أيامها.
وفي ذات المساء الذي ستبث فيه الجلسات الشعرية، تدخلت سفارة إحدى الدول وطلبت بإلحاح مصادرة هذه القصيدة، ووصل الخبر إلى الوفد الموريتاني، واستطاع الأستاذ الخليل النحوي بحصافته المعهودة وعلاقاته المتميزة، أن يقنع القائمين على مهرجان المربد بأن لا تلغى هذه القصيدة وأن تقدم كما وردت دون تحريف.
في الصباح نشرت القصيدة في العديد من الصحف العراقية، وكتبت عنها صحيفة المربد بالبنط العريض:
(القصيدة التي استطاعت أن تنجز في لحظات، ما عجزت عنه الدبلوماسية الموريتانية خلال ستة أشهر):
ضُـمِّـي إليـكِ حبـيـبًـا هَــدَّهُ الزمــنُ@
حَلَّـتْ بِـهِ مِـحَــنٌ مَا مِثْلُـهَـا مِـحَــنُ@
ضُمِّـيـهِ إِنَّ بِـهِ شَــوْقًــا إلَـيْـــكِ بِــهِ@
تَــوْقًا إليكِ، لـهُ بَـــوْحٌ، لـــه شَجَــنُ@
ضُمِّـيهِ إنَّ الرِّمَـــالَ السُّمْـرَ تَـعْــرفُهُ@
وَيَذْرِفُ الدمعَ منها السَّهْلُ وَالْحَـزَنُ@
***
رُحْمَاكِ يا أرضُ، لا شَـيْءٌ ألُـوذُ بــهِ@
إِلَّاكِ، لَـمْ يَـبْـقَ لِي سِـــرٌّ وَلا عَـلَـــنُ@
لَــمْ يَـبْــقَ إِلَّاكِ مَا أرْجُـوهُ، مَـعْـذِرَةً@
إذَا أتيـتُ وقَـدْ جَــافَـانِيَ الْـوَسَــنُ@
أيْـنَ النَّـخِـيلُ وَصَمْـغٌ كنتُ أعْلـكُـهُ@
وأينَ حَيِّي أحَلُّوا اليومَ أمْ ظَعَنُوا؟@
الصَّمْـغُ مَـا زَالَ ثَــرًّا فِي مَـنَـابِـتِــهِ@
والنَّخْــلُ أعْـرِفُـهُ إنِّي بهِ الـفَـطِــنُ@
لِأََسْـمَـعَ الشَّيْخَ فِي ترتيلِ أَدْعِـيَّــةٍ@
لِآنَسَ النَّارَ ضَاقَتْ حَـوْلَـهـا الدُّجُـنُ@
حُـدَا الرُّعَــاةِ بِـإِبْـلِ الْحَيِّ سَـائِـمَــةً@
وِرْدَ السِّوَامِ وَقَدْ عَـجَّتْ بِهَا الْعُطُنُ@
***
حَبِيبِتِي الْأَرْضَ إنِّي لَـمُ أزَلْ دَنِـفـًا@
رَغْـمَ الْبِـعَـاد وحُبِّي فَـيكِ مُـرْتَـهَـنُ@
كُـلُّ الطَّـعــامِ بِحَلْقِّي عَلْـقَـمٌ نَـــزِقٌ@
كــلُّ الشرابِ بِحَلْقِي آجِــنٌ أَسِــــنُ@
إِنَّ الْجِـرَاحَ بِجِسْمِي غَـيْــرُ غَالِـيَِــةٍ@
لكنَّ جِـسْـمَـكِ لنْ يَـذْوي بِـهِ غُصُـنُ@
***
بَـنَـيْتُ عُمْـريَ جَـهْـلًا خَـلْـفَ أَشْـرِعَـةٍ@
في لُجَّةِ الُمَـوْجِ لَمْ تَـثْبُتْ بهَـا سُــفُـنُ@
يَلْـهُـو بِـهَـا الْـمَـــوُجُ رُبَّـانـًا وَأَقْـبِـيَّـــةً@
فِي كُـلِّ زَاوِيَّـــةٍ مِـنْ دَجْـلِــهَـا فِــتَـنُ@
وِظَلْتُ أحْمِـلُ مِـنْ دِينِي وَمِـنْ لُغَـتِي@
ثَـوْبًا عَلَى الدّهْـرِ لَـمْ يَلْحَـقْ بِــهِ دَرَنُ@
***
نَـعَــمْ شَـهِــدْتُ بِعَـيْـنِي مَا أذُوبُ لَــهُ@
وقدْ سَـمِـعْتُ لِمَا اصْطَـكَّــتْ لَهُ الأُذُنُ@
تَخَطَّـفَـتّْـنَـا أَيَـادِي الُبَّـغْيِ عَـَنْ ظَـمَــأٍ@
وَصَـادَرَتْـنََــا فَـلَا سِـتْـــرٌ، وَلَا كَـفَــــنُ@
طِفْـلَايَ كَـالبَـدْرِ يَـا مَـا كانَ حُسْنُهُمَا!@
وَزَوْجَـةً كانَ مِنْهـا الْإلْـّـفُ وَالسَّكَــنُ!@
لَا.. لَنْ أَقُـولَ، لِسَـــانِي لا يُطَـاوِعُـنِي@
مَاذَا أقُـولُ؟ فَحَتَّى الدَّفْنُ مَا دُفِنُوا!@
***
آمَنْـتُ أنَّ تُــرَابـًا فَـوْقَـهُ انْتَصَـبَــتْ@
هَـامُ الرِّجالِ شُمُـوخًا ليـسَ يُمْتَهَـنُ@
إِرْثٌ مِنَ الْمَجْـدِ مَـا دُمْـنَـا يُـوَاكِـبُـنَا@
سِـيَّـانِ مَـنْ رَحَلُوا مِنَّا وَمَنْ قَطَنُـوا@
إنَّ الجيادَ إذا مَا اسْتُـنْـفِـرَتْ نَفَـرَتْ@
لِـشَـأْوِهَـا لَنْ يَكِـلّ السرجُ وَالرَّسَـــنُ@
***
أَيَحْسَـبُــونَ بِـأَنِّي اليومَ مُـتَّــسَــــعٌ@
لِجَـهْـلِـهِمْ؟ يَا لَـهُـمْ هُمْ سادةٌ فُطُـنُ!@
وَإِنَّ بَـيْـتِي بِـيَـافَــا دَارِسٌ طَــلَـــّّــلٌ@
وَإِنَّ طِفْـلِي بِحَـيْـفَــا مُـتْـرَبٌ حَــزِنُ@
وَإِنَّ أُمِّـيَ -لَـوْ يَــدْرُونَ- مَـا فَـتِـئَـتْ@
تُـكَـرِّرُ الْـقَـوْلَ: أَنْ مُـوتُـوا وَلَا تَهِنُـوا@
فَـلَا وَرِبِّــي، فَـلَـنْ نُـغْـتَــالَ ثَـالِـثَـــةً@
إنَّ الــرّجَالَ بِحُـبِّ الأرضِ تُمْـتَحَــنُ@
قَصِيدَتِي الُيَوْمَ شَيْءٌ لَا حُـرُوفَ لَـهُ@
عَـرُوضُهَا الْحُبُّ والإيمَـانُ وَالْوَطَــنُ@
من صفحة الباحث و المدون الكبير المختار ابراهيم السيد