الراحل في عجالة / محمد فال ولد سيدي ميله

الجوسسة والبول على المصاحف، تهمتان جُندت لهما، على مدى عقود، منابر دينية عديدة ومشيخات كثر وجرائد ودوائر وحركات، فقط لإلهاء الشعب عن خط وخطابات مناضل متحرر يوزن بألف زعيم.

أبواق خُلقت من عدم وأموال بُددت جهارا من أجل إلصاق تينك التهمتين برمز النضال السياسي محمد المصطفى ولد بدر الدين. فأما الجوسسة فأجاب عليها تعاقب السنين ودخَل مروجوها في أغمادهم الصدئة. وأما البول على المصاحف وأغنية الكفر فيكفي فيهما ما اعترف به مهندسهما الذي نضرب صفحا عن ذكر اسمه إجلالا له على صدق توبته. فقبل سنوات قليلة اتصل مفوض شرطة متقاعد بالقائد بدر الدين طالبا الصفح بعد أن أكد له، بكل صراحة وصدق، أنه هو من كُلف بنشر شائعة بوله على المصحف، عبر شبكة من المخبرين، في أواسط سبعينات القرن الماضي، في محاولة رسمية لتشويه صورته وتلويث سمعته.

ساسة، ونقابيون، وأرستقراطيات، وصحف، وأئمة وفقهاء، وتجار: أرتال وأفواج وثلل وأجيال من أبالسة الإنس صالوا وجالوا في رشق الراحل بحجارة الكيد والشيطنة والحقد، فكان الواقع، في كل مرة، يُطَمْئنه بمقولة الفيلسوف نيتشه: "إذا ضربك الكل من الخلف، فاعلم أنك في المقدمة".

***

"هناك جزء من العقل البشري يظل خالدا" حسب باروخ اسبينوزا. ولعل مداخلات بدر الدين تحت قبة البرلمان الموريتاني، وما تضمنته من محاولات لرفع الظلم، ومن نضال ضد تعسف الأنظمة واحتقار الحريات الفردية، هو ذلك الجزء الخالد من التراث العقلي للفقيد بدر الدين.

لا وقت لتعداد مآثر الرجل والثرى لم يغيّب بعد جثمانه المهيب. فماذا عسى يقول قلم مرتجف حزين عن قامة نذرت كل حياتها للذود عن المستضعفين والدفاع عن المستعبدين والسهر، الليالي الطوال، من أجل بزوغ نجم وطن حر لا يد للامبريالية الغربية عليه ولا سلطة لجيّف تاريخ البداة عليه!!. لا شيء يمكن قوله سوى أن ذاكرتنا الجمعية سوف تحتفظ له بأن "عقله الخالد" هو من دفع به إلى حضور المؤتمر التأسيسي لجبهة البوليساريو أواسط السبعينات حين كانت الطرق عنقاء وكان الأمن زبرجدًا وكانت المخاطرة موتا محققا. كما سوف تحتفظ له بأن "عقله الخالد" هو ما دفعه إلى رفض الوزارة مرتين في حياته محبذا تنازلات أعمق لصالح الوطن والمواطنين.. وهو ما دفعه لفرض صك العملة الوطنية وتأميم ميفيرما وإقناع رفيقه دافا بكاري بالاستقالة من إحدى حكومات العهد الهيدالي مودعا بذلك عناق الحركة الوطنية الديمقراطية وهياكل "تركيع" الجماهير.. إن "عقله الخالد" هو جهده العظيم في تحرير الكثير من آدوابه وتمكين العبيد من الفرار والنضال من أجل المساواة.. وبكلمة واحده فإن "عقله الخالد" هو ما سيكتبه التاريخ غدا رغم أن الحبر فينا ما يزال ظلوما كنودا.

 

 

***

يملك الراحل الرقم القياسي في "زيارة" السجون الموريتانية. كان أكثر السياسيين اعتقالا.. ما تعرض له من التوقيف والحبس والتهجير جعله يحطم رقما قياسيا مؤلما في قواميس السياسة ومصارعة الأنظمة بغية الحصول على منجزات سياسية لصالح شعب خانع مغلوب على أمره. لذلك اختير في التسعينات ليرصع زاوية "السجين" بتاريخه في الزنزانات وقصصه مع الجلادين. والسجن، كما هو منصوص في مقدمة تلك الزاوية، "مدرسة تخرج منها الكثيرون، عمل بعضهم بمقتضى ما علمته، ونسي البعض دروسه"، ولعل الراحل كان من أولئك الذين حفظوا درس السجون، فتخرج منها وقد قويت شوكته ونضجت ثمرته واشتد عضده فرامت خسفه غربان الأنظمة وانجذبت إليه طواويس الحرية.

إن ما بتلك الزاوية الشهيرة، وما أمكن جمعه من ذاكرة الرفاق، يصلح لكتاب حول الراحل، لأن شهادات هنا، وبكائيات هناك، ومقالات هنا وهناك، لن تفي القائد حقه على الشعب الموريتاني. بل لابد، من أجل الترحم على روحه، من كتاب يخلد مآثره الجمة.

 

***

لا أخالني أدخل في صراع جماعتيْ اتحاد قوى التقدم لأنني غير معني به من جهة، ولأنني، من جهة أخرى، آخذ على إحداهما جمودها الشديد على النص، وآخذ على الأخرى انحرافها الشديد عن النص. غير أنني أرجو أن يكون صديقي محمد ولد مولود على مستوى الحدث كما كان دائما، فلا يحاسب الراحل على علاقات اليوم، بل يحاسبه على علاقات الأمس، وينظر إليه في مرآة الماضي بكل ما لفّت أكفانُه من حلاوة ومرارة، ومن ثم يبادر إلى تنظيم يوم تأبيني لرفيقه التاريخي الذي رحل وكتفه تنوء بحمل ثقيل من هموم الطبقات الكادحة.. صديقه الذي أمضى كل حياته في بناء ثقافة الرفض السياسي، وبناء صرح التعايش العرقي، وهدم ما ترك آل فرعون من قصور وما عفت عرصاته من ديار آل ليلى العامرية.

وأما مالك القصر الداكن، فأقل ما يمكن أن يقدم به التعازي لموريتانيا، في مصابها الجلل، أن يأمر بتسمية ساحة الحرية على فقيد الحرية بدر الدين الذي رفعه الله إلى جوار الصدّيقين بعد أن لعب ما قدّر له من أدوار جميلة الشكل جليلة المضمون. بذلك يكون قد أنصفه، وبذلك نكون له ممتنين شاكرين.

والله نسأل أن يرفع الفقيد درجة في المهديين، وأن يُظله يوم لا ظل إلا ظله.

 

أربعاء, 07/10/2020 - 17:23