كتاب "السودان على طريق المصالحة" مزيج من علم الوساطة وسياسات المصالحة بأرقى معاييرها وشروطها، وفن التاريخ، مع مسحة أدبية راقية، وشيء من الثقافة والفلسفة. إنه –بحق- يعكس كاتبه المثقف والسياسي والمفكر الكبير محمد الحسن ولد لبات، وزير الخارجية والسفير السابق والموظف الدولي المختص في حل الأزمات.
في كل فقرات الكتاب، يشدنا الأسلوب الأدبي الذي تتفتق أكاليله بالوصف الجميل. فهنا "كانت حركة المطار باهتة في جو يصطلي بأشعة الشمس"، وهناك "لم يكن يلاحظ سوى بعض الأوجه السّاهمة للبرتوكول السوداني وثلة قليلة من وكلاء الأمن زائغي الأبصار". غير أن سلطة الفحوى، بما تفرضه على القارئ من مواصلة ابتلاع الجمل الواحدة تلو الأخرى، بنهم شديد، حتى آخر كلمة من آخر سطر من الـ 8 فقرات والـ 424 صفحة، تعيد القارئ إلى الأهم، وهو مسلسل الوساطة في الأزمة التي أعقبت الانقلاب في السودان. فلنتابع إذن حيثيات الخطوات الصعبة التي رسمها الوسيط محمد الحسن ليصل إلى اتفاق تاريخي في المنطقة. لكن سنقلب الأمور رأسا على عقب لنبدأ من حيث انتهى الكاتب لأن ما كشف عنه سيكون له ما بعده في بناء ثقافة الصراحة والموضوعية والصدق مع الذات ومع الشعب ومع التاريخ.
في آخر فقرات هذا الكتاب الشيق، تجرأ المثقف الواعي الدكتور محمد الحسن ولد لبات على ما لم يسبقه له مثقف أو سياسي موريتاني، إذ سطّر في كتابه اعتذارا غير مسبوق لشعبه عن سنوات الصمت في ظل الأحكام المتغطرسة، فكان بذلك أول من تدفعه شجاعته وموضوعيته وخلوه من العقد إلى تحمل المسؤولية الأخلاقية عن صمته خلال "سنوات الجمر" كما تعرف في بلدان أخرى. يقول الكاتب: "شهد بلدي (موريتانيا) أحداثا مؤلمة للغاية تخللتها أعمال عنف شنيعة وعلى نطاق واسع، ورافقتها انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان. وأنا -للأسف- أنتمي لنخب بلدي التي، وإن لم تبرر ما حصل، التزمت الصمت حياله، ولا يمكن إلا أن نتحمل مسؤولية أخلاقية عن تلك الأحداث. وأنا، على الأقل، أتحمل مسؤوليتي في هذا الصدد دون مواربة ودون التماس أي معاذير. نحن إذن (وفي هذا الـ "نحن" أضع نفسي بلا لف ولا دوران) قد أذنبنا لا بالفعل، بل بالترك. وهذا ليس شيئا هينا. وهذا ما يحتم علينا، لكي نؤدي واجبنا الأخلاقي، أن نقر بخطئنا. فواجبنا ليس البحث عن عذر، بل أن نتحمل أخلاقيا وزر سكوتنا وعجزنا عن قول الحقيقة. فأنْ نكون قد خُدعنا من قبل من ارتكبوا الجرائم، أو نكون قد تجاهلنا صوت الضمير، جبناً أو تمصلحاً، فهذا لا يبرر، بحال من الأحوال، خطأنا المعنوي في التزام الصمت".
إنها بادرة سيحسبها التاريخ لهذا الرجل الذي ناضل في ريعانه شبابه، بل مراهقته، من أجل استرداد حقوق الناس وضمان حرياتهم، خاصة أن "للاعتراف بالخطأ وطلب الصفح فوائد مؤكدة في تخفيف تأنيب الضمير. ولا يهم الجواب الذي يتلقى به الضحايا هذا الطلب ولا نتيجته رفضا للصفح أو قبولا له، فالنقد الذاتي ليس فقط منهجا للنهوض من العثرة، وإنما يعتبر أول ضوء ينير الطريق إلى التوبة سبيلا إلى إعادة ترميم الشخصية السوية وإعادة بنائها على أساس التصالح بين الإيمان والعقل والوجدان".
إن تحديد الكاتب الدكتور محمد الحسن للمفاهيم وتعريف المصطلحات التي تملأ قواميس العمل السياسي والحقوقي في أيامنا هذه، لا تقتصر أهميته على الواقع السوداني إبان أزمته الأخيرة المتمخضة عن الانقلاب العسكري على المشير عمر البشير، بل تتجاوزه لتكون ذات أهمية قصوى في كل التطاحنات والاحتقانات ذات الطابع العرقي والفئوي في جل أصقاع إفريقيا. إنها دروس تساعد كل الأطراف المتناحرة أو الآئلة إلى التناحر على كيفية التعاضد من أجل بناء السلم ومن ثم الاستقرار والنماء. فـ"المصالحة تعني قبول الآخر، واحترام الآخر، والاقتناع بضرورة وجود الآخر وبأننا لا شيء من دونه، وبأن الآخر في النهاية هو الكائن، إذ المهم هو نحن وليس أنا وأنت، فالمصالحة في الحقيقة هي تجاوز للمقابلة بين أنا وأنت. فهي لا تعترف إلا بـ نحن"، على حد تعبيره الرصين.
وفي بعده الفلسفي القائم على استيعاب الخلفيات وفهم الواقع بعد تفكيكه وتحليله، يقول الدبلوماسي والوسيط الدولي محمد الحسن: "يجب التقريب بين التسامح، وهو مفهوم يميل إلى السكون والثبات، وبين المصالحة، وهي مفهوم أكثر ديناميكية وحركية، لكي يكون التسامح قاعدة تنطلق منها المصالحة وتمدها بمسوغات وجودها لخدمة الانسان". لكن هذه المصالحة التي ينشدها ولد لبات، وسعى ويسعى إلى تحقيقها، بنجاحات مشهودة، لابد أن ترتكز على فعل حقوقي وقانوني بالغ الأهمية. إنه العدالة: "فالمصالحة تستحيل ما لم تقم على العدالة، ولا مصالحة ما لم تُكشف حقيقة انتهاكات حقوق الانسان، وما لم يتم جبر الأضرار، وما لم تجر تصفية الإرث الإنساني، بحيث يتأكد الضحايا أن ترتيبات التسوية وما يرتبط بها من بناءات مؤسسية لن تكون أبدا على حسابهم، ولن تتجاهل حقوقهم التي لا تقبل التصرف ولا التقادم". وبهذا، وفقط بهذا سوف نعرف، في إفريقيا على الأقل، وانطلاقا من الفهم السليم لكاتبنا، "كيف نطوي صفحة من تاريخنا".
لم يأت الدكتور محمد الحسن إلى عالم الوساطة من فراغ، ولم ينجح فيه إلا بفعل تراكمات وتجارب مفيدة واحتكاك لصيق بعظماء القارة. لقد علمته تجربته الفريدة مع الرئيس التانزاني السابق، جوليوس انييريري، الذي عمل معه مراقبا للمفاوضات بين الفرقاء البورونديين، أن "الغرور والخيلاء والتكبر والوقاحة والرشوة والتحرر من قيود اللباقة وإفشاء أسرار الأطراف، هي أمور تشكل رذيلة قاتلة لكل وسيط ". كما تعلم من معلم الانعتاقيين في العالم، الراحل نيلسون مانديلا، أن "من لا يقبل، خدمة لمصالح الأمة، أن يتصالح مع من قتل ولده واغتصب ابنته ليس جديرا بأن يقود الأمة". فيما تعلم من رئيس بوتسوانا السابق، كوت ماسيره، الذي كان ممثله الخاص في الكونغو الديمقراطية، قيّم "التواضع والصبر وتحمل الاعتداءات ومقاومة الخيانة والقدرة على التزام الطريق القويم مهما ساء الزمن السياسي واكفهرّت أجواؤه". لقد عايش الكاتب وكلم وأفاد واستفاد من حكمة رجال من خيرة الزعامات والنخب الإفريقية أمثال بطرس بطرس غالي، وعبد جوف، وألفا عمر كوناري، وكوفي عنان، والأخضر الإبراهيمي، وتابو امبكي...
هكذا يمكنه أن يدخل "سياق الوساطة" في السودان وهو مسلح بتجارب فريدة لا تتوفر لغير المحظوظين من أصحاب الطموح والهمة العالية. فبعد عشرة أيام فقط من الإطاحة بالرئيس اللواء عمر البشير وبحزب المؤتمر الحاكم منذ 1989، بدأ الوسيط محمد الحسن ولد لبات مهمته في السودان يوم 21 نيسان/ ابريل 2019. كان الدكتور محمد الحسن وحيدا في مهمته بعد أن زار معه رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي ورئيس الوزراء الأسبق في اتشاد موسى محمد فكي مدينة الخرطوم في ذلك اليوم المشهود الذي التقيا فيه بكل الأطراف بدءا بمجموعة "إعلان قوى الحرية والتغيير"، ومرورا بتجمع المهنيين الذي قاد الثورة وبوفود التشكيلات السياسية والمجتمع المدني، وانتهاء بقادة الانقلاب. كان مسكونا، خلال تلك الرحلة، بـ"المجهول الذي يساورنا ويهيمن على أفكارنا بفعل غموض الأفق. إنه الخوف من إخفاق المهمة".
كان رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، موسى محمد فكي، ذكيا وذا حس مرهف، فقد فهم كفاءات زميله محمد الحسن وقدراته الفائقة على المناورة والإقناع، لذلك جعله رأس الحربة في النقاشات الصعبة والمعقدة مع الأطراف السودانية. يقول صاحب الكتاب: "مع توافد الجموع، كان رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي يدفع بي إلى الواجهة. كان يستدرجني لكي أتناول الكلام حتى قبله في بعض الأحيان. كان يستعين في ذلك بلغة الجسد، أي ببعض الإشارات والرموز الخفية التي كنا نتواصل بها في الغالب، ولاسيما عند حضور من لا نريد، لا هو ولا أنا، أن يطلعوا على الخفايا العميقة لطلاسمنا المستورة". وفي معمعان تلك اللقاءات المطولة والمتعارضة، كان الوسيط محمد الحسن غارقا في بحر من التساؤلات الموضوعية: ما هي العراقيل التي تحيط بموضوع خلافات السودانيين؟ ما هي الأوراق اللازم تحصيلها وتنظيمها؟ ما الخطط التي ينبغي رسمها واتباعها؟ على من يعول في مهمته؟ ممن يلزم الحذر منه لكي لا يُفشل المساعي؟ أي نتائج يمكن توخيها؟...
في تلك الفترة من المسلسل، كان ولد لبات مستشارا رئيسيا لرئيس اللجنة الإفريقية، وقد حضر إلى الخرطوم تحت هذا العنوان بالذات. وكان يعمل مع زميل "مستقل جدا في رأيه" لا يقبل التأثير على قراره، لكنه يستشير كثيرا قبل اتخاذ أي قرار. وهكذا اتخذ موسى محمد فكي قراره الموفق بتعيين محمد الحسن رئيسا لفريق الاتحاد الإفريقي المكلف بتنفيذ القرار الصادر عن مجلس السلم والأمن بشأن الانقلاب في السودان.
بعد تعيينه، أعد عدته لمواجهة هذه المهمة الصعبة لوحده، فانطلق في ذلك المسار الصعب. كانت "دارفور وكردفان الجنوبي والنيل الأزرق مناطق تغلي وتخلق أجواء من التوتر المستمر المزمن". وإبان مقدمه، كانت ثلاث حركات تسيطر على المشهد تحت اسم "الجبهة الثورية": حركة العدل والمساوة: التي يقودها جبريل إبراهيم ويوجد أكثر أنصارها في قبيلة ازغاوه المتواجدة في السودان واتشاد، وهي نفس قبيلة الرئيس اتشادي إدريس دبي أتنو ورئيس اللجنة الإفريقية موسى محمد فكي. ولها وجود في شمال وأقصى جنوب دارفور. والحركة الشعبية الشمالية بقيادة مالك عقار وتنشط في جنوب النيل الأزرق. وحركة جيش تحرير السودان التي يقودها مني أركو مناوي. ولها حضور في وسط دارفور ويقال بأنها تدعم المشير حفتر في جهوده الرامية للإطاحة بحكومة الوفاق الوطني بليبيا.
وتضم هذه الجبهة حركات أخرى منها حركة تحرير السودان، ومؤتمر البيجا، والجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة، وحركة تحرير كوش، والحزب الاتحادي الديمقراطي.
كان المشهد متشعبا ومعقدا كما رأينا، يكاد ينفجر بفعل الاحتقان. أما "الجيش الذي يعد الذراع الضاربة للنظام القائم، فيُتهم بأنه قد تخلى، في ظل حكم الإنقاذ، عن مهمته النبيلة في حماية وخدمة الدولة والأمة. فمعارضو النظام البائد، من اليسار خاصة، يرون أن الجيش، بكل هيئاته، من قيادة وأكاديميات ومراكز تكوين ومخابرات وتجهيزات وصناعات، قد استحوذ عليه أشخاص مؤدلجون عديمو التجربة والكفاءة الفنية والمهنية".
وفضلا عن هذه التعقيدات، واجه الوسيط تهرب شباب الثورة من كل ما له صلة بمنظمة الاتحاد الإفريقي. يقول الكاتب: "لم يكن الشباب الثائر، الذي صنع الحلم السوداني في إسقاط نظام حَكم على مدى ثلاثة عقود، يمنح أي احترام لمنظمة الاتحاد الإفريقي التي تقود الوساطة إذ يرون أنها آزرت الرئيس البشير، وحمته من أن يسلم لمحكمة الجنايات الدولية، ولم تنبس قط ببنت شفة لاستنكار جرائمه الحقيقية أو الوهمية. فالمنظمة تشكل بالنسبة لهم تكتلا يعمل لحماية الرؤساء".
إلا أن ولد لبات، رغم كل التحديات، بنى وساطته على كسب ثقة الأطراف. لأنه "كان موريتانيا مندمجا في روح سوداني"، خاصة أن منهجه ظل قائما على تجربته "مع أساطين أفارقة سبق لهم القيام بمسلسلات تسهيل ووساطات تكللت بالنجاح". وقد بلغ الهدف بحنكة لا تصدق وفي ظرف قياسي بالنظر إلى الظروف غير المواتية والجو السياسي القاتم جدا. وهنا يتساءل محمد الحسن عما إذا كان الوسط الثقافي الزاوي الذي ينتمي إليه قد ساعده في التعقل والحنكة وفصل الخصام؟. لقد انتابه هذا التساؤل بعد اطلاعه على تحليل لأرنست جلنر عن الدور المنوط بالأسر المرابطية في مجال الوساطة وفض النزاعات القبلية.
كان مسار المصالحة واضحا في ذهن الوسيط فـ"من يقبل مبدأ الحوار يقبل وجوب التنازل"، وبالتالي أقنع كل طرف بالتنازل عن بعض مطالبه لمصلحة السلم في السودان. كما حرص على "انتزاع الأفكار المتعارضة وكل أشكال التعصب والتصلب" لدى الفرقاء.
بعد إنضاج الوساطة، دخلت البلاد في مفاوضات عميقة بين المجلس العسكري الانتقالي ووفد من إعلان قوى الحرية والتغيير. وبعد جولات من النقاش، أعلن الناطقان باسم الوفدين، في تصريح مشترك أمام القنوات الفضائية، أنهما توصلا إلى اتفاق على أكثر من 90% من النقاط، ما أثار فرحا عارما. في هذه المرحلة من المفاوضات، أخذ اسم ولد لبات يعلو في سماء الإعلام الإفريقي والعربي والغربي. وكانت كبريات الصحف السودانية تخصص جل أعمدتها لأخبار وساطته وتحليل نتائجها وعواقبها ومطباتها. وعندما عاد الجو إلى الاحتقان بين المدنيين، مدعومين بقرار مجلس السلم والأمن بإعادة السلطة إلى حكم مدني، من جهة، والعسكريين الذين يريدون ضمانات حقيقية من بينها فك الاعتصامات من جهة أخرى، جاء مقترح الوسيط ولد لبات المتضمن قوله: "إنني أقترح حلا يقوم على المساواة مع أغلبية مدنية"، أي ما حدده بالأرقام في صيغة: 7+7+1، بعد أن فكر في أن المجلس العسكري الانتقالي يتكون من 7 ضباط سامين، وإعلان قوى الحرية والتغيير يتكون من 7 حركات.
ورغم ما اعترض الاقتراح من تأزم بين الأطراف، ورغم محاولة البعض خلق وساطة في وساطة، فقد لعب رئيس الوزراء الأثيوبي دورا مهما في إعادة الأمور إلى مجاريها الطبيعية بفعل ثقته المطلقة في الوسيط محمد الحسن الذي يرفض أي مسار أحادي سيجر البلاد إلى حرب مدنية لا قبل لها بها. وهكذا استعان "بتراثه السجالي الجدلي"، الذي جمعه وهذبه في عهد الكدحة، لفعل أي شيء يمنع الثورة السودانية الجميلة من الفشل. وبالفعل تمكن من تقديم أكبر مرافعة حول اتفاق مرحلي يتضمن مجلسا سياديا أغلبيته للمدنيين يفضي إلى مجلس تشريعي لا يضم أي عسكري ويوكل إلى مدني بتولي رئاسته في المرحلة الثانية من الفترة الانتقالي.
وأفضت المفاوضات العويصة، التي لا يمكننا أن نمر على جميع تفاصيلها ومجرياتها في أسطر، إلى إعلانه الشهير بين جمع من الصحفيين المرهقين: "إني لسعيد جدا أن أعلن لكم أن الطرفين قد توصلا إلى اتفاق كامل بشأن المرسوم الدستوري وغيره من النصوص الملحقة".
وبعد فصول أخرى من المراوغات والاتصالات والنقاشات الماراتونية، بلا نوم ولا راحة، وبعد نجاح منقطع النظير في جبر أعطاب العلاقات بين القوى السياسية والعسكرية، وجد محمد الحسن نفسه محمولا على أكتاف الشباب وهو يصرخ: "اطرحوني"، ولم ينقذه من ذلك المشهد إلا قول أحدهم: "رفقا بالشيخ". يقول الوسيط متهكما على نفسه: "أعتقد أن كلمة الشيخ كان المقصود بها المسن، وليست تعبيرا عن المكانة!".
وها هي المرحلة الانتقالية تبدأ بكل تحدياتها، ليعود الرجل أدراجه، فتحلق به الطائرة ملقيا "آخر نظرة لمهمتي على الخرطوم، تلك المدينة التي أشاطرها الآن، بصمت، ألف ذكرى من الجمال، والافتتان، والتحديات، والمخاطر، والعقبات الممزوجة بإحساس مبهم من الهواجس والقلق والشكوك تجاه القدرة على مقاومة التهديدات التي تقف بالمرصاد للصرح الذي شيدناه مع السودانيين أنفسهم، وابتكرنا معهم وبهم معماره البنائي لإقامة مرحلة انتقالية ديمقراطية".
ويختم الوسيط محمد الحسن ولد لبات بتساؤلات حول المستقبل، من أهمها: إن الإصرار على تهميش إفريقيا سياسة غبية، ولا يمكن لإفريقيا أن تستمر في استقبال أباطرة هذا التهميش الذين يتوافدون على مقرها القاري وحدانا وزرافات لإبرام اتفاقيات للشراكة الاستراتيجية، فأي شراكة استراتيجية يمكن أن تُبنى على الازدراء وإهدار الكرامة؟. ثم إنه يذهب في تساؤلاته العميقة إلى أبعد من ذلك، فيقول: هل طبيعة الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي تقبل الاستمرار دون قيادة مشتركة بين المدني والعسكري؟، فاتحا بذلك جدلا مهما يحتاج إلى مفكرين من العيار الكبير لسبر أغواره.
كتاب "السودان على طريق المصالحة" تميز بأنه كله استشراف لإفريقيا والعالم العربي والإسلامي رغم أن العنوان يحيل إلى بلد بعينه، فعن منطقة الساحل يقول الكاتب مستشرفا إنها "مجموعة تجسد الأمل في بزوغ نزعة إنسانية جديدة قوامها الحرية والسلام والرخاء المادي"، لكن دول الساحل، شأنها في ذلك شأن إفريقيا والسودان على الأخص، لابد لها من مخيلة جماعية تحافظ على المنجزات، وتقيم وزنا للمصالحات، وتتطلع إلى مستقبل زاهر، بيد أن هذه "المخيلة الجماعية لا تنشأ دفعة واحدة، فهي دائما منتج ناجم عن مسلسل طويل من التراكمات والمنعرجات والانتكاسات والتذبذب بين التقدم والتأخر، قبل أن تتشكل كفلسفة للقيمة الأسمى أو، إذا شئنا، للمعتقد السائد"، كما يقول المفكر ولد لبات الذي يخلص إلى أنه "لولا العنف الذي شهده تفريق اعتصام الثالث من جزيران/ يونيو في السودان، ومقتل التلاميذ والإعلان المتكرر عن قتل أشخاص في صدامات الشوارع، لكوّنت الثورة السودانية قصيدة شعر". أما نحن، جمهور القراء المتواضعين، فنخلص إلى القول ان كتاب "السودان على طريق المصالحة" لو قدر له أن ترجم إلى العديد من اللغات، لكان مرجعا باستطاعته المساهمة النيّرة في توضيح السبل والمنهجيات والأساليب القادرة على وضع حد للأزمات في الصومال، ومالي، وكازامانس، ووسط إفريقيا، وليبيا، والصحراء الغربية، وكاشمير، وناغورني كاراباخ، وغيرها من بؤر التوتر، لأن الأطراف المتنازعة سترى فيه مدى الأهمية القصوى للحوار والمصالحة والنتائج الإيجابية المرجوة منهما.