قبل فترة ركبت مع سائق تكسي وسط العاصمة ، لاشيء مختلفَ بخصوصه ، سيّارةٌ متهالكة تزحفُ بقدرةِ قادر فوقَ شوارعِ العاصمة الكئيبة ، ورجلٌ بسحنةٍ متعبةْ لم تكنْ الحياة ودودةً معها مطلقاً ، اللهم إلا ابتسامتهُ الهادئة المرتسمةُ على وجهه ، توحيِ بالرّضا رغم كل شيء .
رحلتنا كانت طويلة ، من مدخلِ العاصمة الشّرقي وصولاً إلى غاباتِ الإسمنتْ في تفرغْ زينة ، كنت منشغلاً بهاتفي - الذّي يلتقطُ النّت لأوّل مرّة منذُ أيام- طوال الرّحلة الثّقيلةِ في وعثاءِ يومٍ حارٍّ من أيّام العاصمةِ التّي استقبلتني بهوائها الكئيب ، أزعجني راكبٌ ثقيل يسترقُ النّظر للهاتفِ بجواري وتثقل نفسيّتي أنفاسهُ المزعجة ، لذا أخبرت الرّجل بعدَ نزولهِ أنّي سآخذ المكان الإضافي ، بلطفٍ أخبرني " يسوَ يوليدي..يغير باصّها نديرُ فذيك البطّة ، ذيك بلاصة مولانا "
وأشار لعلبة صغيرة وضعَ فيها للتّو أجرة الرّاكب الذي كان بجواري .
استغربتْ ، ذيك شنهِ يوالدي ؟ فسردَ عليّ القصّة العظيمة ، أخبرني أنّه منذُ دخلَ المجال قبلَ سنواتٍ طويلة قرّر المتاجرة مع الله ، يتركُ مكانا في سيّارتهِ ، أو بلاصة مولانا كما يصفها ، ويرجوا مقابل ذلك أن ييسّر الله رزقهُ ويمنحهُ الرّضا والقبول بما يجد .
"بلاصة مولانا " هذه فكرةٌ عظيمة ، حالتها واحدةٌ من اثنتين ، إمّا أن يركبها معوّزٌ أو فقيرٌ فلا يأخذُ الرّجلُ منه أجرا لأنّها موقوفةٌ لله فيستفيدُ منها عبادُ الله الضّعفاء ، أو يركبها شخصٌ عاديٌّ يدفعُ الأجرة فيعزلها الرّجل في علبةٍ خاصّة ولا يحسبها ضمنَ مدخولاته اليوميّة ويمنحها كصدقةٍ لمن يصادفهم عند الإشارات ونحو ذلك .
سألتهُ معقّبا ، ذا ايّاك ماه مخصّر شي اعل ربحكم مع گزوال ، كانَ جوابهُ آسرا ، هذا كلّهُ رزقُ من الله ، ولا تزيدهُ الصّدقة إلا بركة ، وذا كاع مربوح منّو إلا نزولْ البركة ، ولا خالك سبّة أشبه لها من الصّدگة ، وعادت الإبتسامةُ للإرتسام على وجهه ، إيمانُ هذا الكهلِ وثقته بالله شيءٌ يجعلكَ تحتقرُ نفسك ومخاوفك !
وصلتُ للمنزلْ بعد رحلةٍ طويلةٍ عرّفتني على شخصٍ عظيم ، مجهولٌ في الأرض ، محتقرٌ ربّما ويوصفُ بالجهل ، ولكنّه معلومٌ هناك بعيداً ، في السّماء ، حيثُ لا يذكرُ العبد إلا بأعماله .
لاحقاً راودني سؤالٌ كبير ، ماذا عن "بلاصة مولان" الخاصّة بكلّ منّا ؟ بلاصة مولانا للتّاجر ورجلِ الأعمال ينفعُ بها عبادَ الله ، بلاصة مولان للطّبيب يعالجُ بها محتاجاً يشتكي الألم ، بلاصة مولان عند المعلّم يلتمسُ بها تعليم الجاهل ، بلاصة مولان عند صاحبِ المطعم يسكتُ بها صرير أمعاء جائع ، بلاصة مولان عندي وعندك وعندكِ وعندنا جميعا ؟
إنّ كلَّ رزقٍ يكسبهُ العبدُ فضلٌ من الله ومنّة ، ولو بذل العبدُ أسباب الأرض دونَ أن يأذن الله لرزقه أن يأتيهُ لما وصلهُ جناح بعوضة ، ولو أذن الله له أن يأتيهُ لأتاه ولو على رؤوسِ الجبال ، وإن شكرَ النّعمةِ حمدها ، أفلا نحمدُ الله بفكرةٍ عظيمة كـ " بلاصة مولانا " ؟
اللهم إيمانا كإيمان الكهول♥️
إبراهيم محفوظ الوالد