حتى لا تُخرق السفينة/ محمد فال الشيخ

يحرص البعض على تذكيرنا من وقت وآخر بأننا مجتمع متعدد الأعراق واللغات وهذا صحيح وأننا مجتمع فيه العنصرية والجهوية والطبقية والعبودية وبعض هذا صحيح لكننا نذكر هؤلاء أيضا بأننا مجتمع مسلم 100% عاش على هذه الأرض منذ عدة قرون في وئام وسلام وأخوة حيث كانت بوادر الصراع أقوى وأسباب الفرقة أشد .

 نحن الآن تحت مظلة دولة ينبغي أن نسعى جميعا لبنائها لتكون ضامنة للحقوق والعدالة ولن يتأتى ذلك بما نشهده اليوم من تلويث للنقاش العام وشغل له بالمعارك الجانبية التي تعطى طالبا عرقيا او طبقيا أو قبليا لكل حادث حتى لو كان تافها.

 لا شك ان في مجتمعنا مظالم ومخلفات تهميش ولا خلاف على تجريم الظلم وضرورة إسناد الفئات الضعيفة ومعالجة الاختلالات البنوية لكن وفق المدخل الصحيح وبالأسلوب الأسلم، وقد قال الرسول صبى الله عليه وسلم" من قال هلك الناس فهو أهلكهم".

ما نتابعه اليوم تشنيع ومبالغات وإطلاقيات استسهلها البعض فصاغ منها رؤية مزاجية أقرب إلى الشينفونية فهدمت أكثر من ما بنت وأوقعت البلد في ورطة بدل أن تخط طريقا للإصلاح والتغيير وهكذا فقدت "المسألة الاجتماعية في موريتانيا" بوصلتها وتاهت في معارك صغيرة وتافهة شغل بها الرأي العام وعلق عليها مثقفون وساسة، وما كان ينبغي أن تأخذ ربع ما أخذت من نقاش وجدال في مجتمع يعج بالمشاكل والتحديات، لكن الاستثمار في الصراعات الصغيرة والحوادث الفردية أصبح الشغل الشاغل لبعض المحسوبين على النخبة والأخطر من ذلك أنه تمت صياغة توجهات وقناعات بناء على هذه الاطلاقيات وتم تسويقها كمنوذج للتنوير والوطنية الحقة ووصم مخالفها أو من لا يتفق معها 100% بالرجعية والتخلف والعنصرية وتم تلويث النقاش العام وصرف طاقات شباب الامة في التفاهات .

معركة تزييف الوعي هذه مستمرة وتفتك بعقول الأجيال الشابة الذي يصور لها أن هذا هو سبيل النجومية وطريق التنوير .

والبعض يجنح إلى تهديد المجتمع بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم يتفق الجميع مع رأيه الشينفوني المبني على الكثير من الإطلاقيات والإسقاطات الخاطئة في سلوك أقرب إلى الابتزاز منه لمطارحة الرأي والدفاع عنه.

إذا لم يأخذ الحكماء مسؤولياتهم في التوعية الحقة ونقاش المسألة الاجتماعية بموضوعية وفي أجواء إيجابية تحقق العدالة وتعزز الوحدة وتتطلع للمستقبل فإننا أمام خطر ماحق لا قدر الله فقد شرع بعض المستعجلين في تغذية الأخبار اليومية بالشائعات والحوادث المعزولة التي لا أهمية لها لو افترضنا جدلا صحتها ومحل التعاطي معها ساحات القضاء ومجالس الصلح والتحكيم ليأخذ كل مواطن حقه وليس من ذلك بحال المحاكمات الاعلامية كما نتابع هذه الايام، فشعبنا بحاجة إلى التركيز على مشاكله الحقيقية المتعلقة بأولويات اللحظة مثل بناء دولة المواطنة وتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية والتطلع للمستقبل بدل العيش في الماضي وتحميل الأجيال الجديدة فاتورة حقب سابقة انتهت بما لها وما عليها.

بغض النظر عن وجود العبودية في موريتانيا أو اختفائها فإن المؤكد أن بقاياها ومخلفاتها ماثلة وموجودة كما أن الأفق مفتوح أمام "العبيد السابقين" للتحرر الكامل وأخذ مكانهم الطبيعي كمكون وطني عريق يستحق أن يعطى عناية خاصة من الدولة والمجتمع.

وأمام السيل الجارف من المعلومات المضللة والقصص والحوادث المشكوك في صدقيتها نحن بحاجة إلى التذكير بضرورة التدقيق والتثبت قبل إطلاق الأحكام الجزافية فقد تابعنا محاكمات على الهواء لأشخاص وأسر ومجتمعات دون أدنى تبثت وطفق بعض المطابين بالحقوق بإصدار الاحكام بالتجريم بناء على معلومات مضللة وشائعات والغريب في هؤلاء أنهم يطالبون القضاء بأخذ مسؤولياته ثم يتهمونه بالطواطؤ والانتقائية وهم أنفسهم معروفون بالانتقائية وازدواجية المعايير ويحضرني مثالان على هذه الانتقائية أحدهما كان يدافع عن المسيء للجناب النبوي ويطالب بقبول توبته واعتذاره ووصف من لم يرض بذلك بالعنصرية والطبقية الخ بينما يطالب هذه الايام برفض اعتذار شيخ مسن مشكوك في "تعمده الإساءة" على الأقل.

المثال الثاني الاحتجاج على الملكية الخاصة للأراضي الزراعية، في بعض المناطق والقرى والمطالبة بتطبيق القانون العقاري فيها ورفض تطبيقه في بعض قرى أخرى استنادا إلى الملكية الخاصة؟!

 ولست هنا في وارد الحكم بأن هذا الرأي صواب أم خطأ بقدرما أريد التنبيه على الازدواجية والمزاجية في مثل هذه المواقف ولا شك أن بعض هؤلاء صادق في مسعاه ويروم الخير والعدل لكن الجنوح للتطرف وإطلاق العنان للخيالات والتعامل مع الإشكالات الاجتماعية المعقدة بالأحكام المسبقة الجاهزة أدى إلى فقدان البوصلة والضياع في متاهات لا حدود لها.

أذكر في هذا الصدد بأن المجتمع الموريتاني بكافة فئاته عاش على هذه الأرض منذ عدة قرون في وحدة وتآخ وحدثت فيه مصاهرات وذوبان بعض الفئات في أخرى وأغلب الصراعات العرقية المشهورة حدثت بين قبائل وبطون وليس بين فئات وأعراق صحيح أنه مجتمع تقليدي مثل كثير من المجتمعات القديمة فيه عبودية وعنصرية وطبقية وجهوية، وداخل هذا الفيسفساء الاجتماعي والعرقي والقبلي كانت هنالك الصراعات والاعتداءات والمظالم وكانت هنالك أيضا أحلاف ومصاهرات وكثير من الأخوة والمعايشة.

ولكن "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" النبش في الماضي بانتقاء الحوادث المؤلمة أو المظالم الغابرة لا يترتب عليها سوى مزيد من الفرقة والشنآن ولو تناولنا كل التاريخ بما فيه من إيجابيات وسلبيات لكان أقرب للحق والصدق والإنصاف.

بكل تأكيد مجتمعنا ليس مثاليا وهو ككل المجتمعات المعاصرة فيه العنصرية والجهوية والقبلية ولكن فيه أيضا كثير من الخير والتعاون والتآخي وفي تشخيصنا للواقع علينا أن نذكر هذا مع ذاك سعيا لمواجهة المظالم وتجسيدا للمؤاخاة فمسؤولية المصلح الواعي أن يعالج الاختلالات بحكمة وتعقل وأن يبتعد عن سلوك الانتهازيين الذين يعتاشون على المآسي ويوظفونها خدمة لأجندات نفعية شخصية.

لكن مع تطور الواقع الحقوقي في موريتانيا أصبح هذا الباب مسلكا للكثير من الممارسات غير السوية تحت يافظة الدفاع عن الحقوق ومن أبرز شواهد ذلك المطالبة بمحاربة فقر دون فقر ومساعدة فقير من عرق معين وترك غيره حتى لو اتحدا في الصفة (أي الفقر) وكذا المطالبة بالمحاصصات في كل شيء حتى وصلوا إلى المسابقات العامة ووقف نجاح البعض بحجة أن أسرته من لون معين وبعضهم طالب بوقف الاكتتاب في بعض الشرائح حتى تلتحق بها أخرى في سلسلة من المهازل التي تحولت مع الوقت إلى مطالب منطقية لا يجد بعض العقلاء بدا في طرحها ونقاشها والترويج لها بحجة "الحقوق والعدالة".

لا ينبغي أن نخدع أنفسنا فهذا ليس مدخلا لتغيير للإصلاح الاجتماعي ولا لبناء دولة المواطنة والحقوق .

الدولة الموريتانية عليها أن تتجه إلى حلول جذرية تحقق العدالة الاجتماعية وتكافح الفقرو الغبن وتحارب الفساد والمحسوبية ولا شك أن محاربة العبودية ومخلفاتها واجب وطني وشرعي على الدولة والمجتمع أن يقوما به بشكل متكامل ولكي يتحقق ذلك ينبغي أن يكون جهدا متكاملا يتجه للاختلالات الحقيقية وينصف كافة الفئات الفقيرة والمهمشة بدل الخضوع لبعض الانتهازيين الذين يستثمرون في التعدد الاجتماعي والعرقي للابتزاز الدولة والمجتمع واستجلاب التعاطف بعد أن فشلوا في بناء مشاريع سياسية مقنعة .

ولو استطردنا من كشف تهافت بعض الخطابات الحقوقية التي شهدتها موريتانيا خلال السنوات الماضية لرأينا العجب العجاب ولكن لا أهمية لذلك المهم أن ينتبه المجتمع لمشاكله الحقيقية ويضع رؤية لحلها في إطار الدولة الواحدة والمجتمع الواحد وتحت يافظة دولة المواطنة والمواساة.

وأريد أن أختم بالتذكير ببعض الأمثلة على تهافت خطاب هؤلاء بشأن المسألة اللغوية حيث يريدون لموريتانيا أن تكون دولة ناطقة ب 5 أو 6 لغات في الادارة والتعليم تحت يافظة التنوع والانفتاح والمراد بذلك تمييع مطلب ترسيم اللغة العربية باعتبارها لغة المجتمع والدولة بما لها من مقومات حضارية ولأنها لغة الاكثر الساحقة من شعبنا وتكوير اللغات الوكنية الأخرى لروافد ثقافية لكن بعيدا عن التمييع والخداع والمجاملات في غير محلها.

طبعا الحقوقيون هنا لا يتذكرون الدول الكبرى في مجال الحريات والديمقراطية والتنوع العرقي وسياستها اللغوية القائمة على لغة الأكثرية لغة تعليم وإدارة ( امريكا بريطانيا فرنسا) يتذكرون فقط موريتانيا التي يريدون ان يحولوا تنوعها العرقي واللغوي من دلالته الإيجابية الأخوية إلى تكريس للفتنة والفرقة والتشظي لا قدر الله.

 

من صفحة الصحفي بقناة المرابطون محمد فال ولد الشيخ على الفيس بوك

 

خميس, 09/12/2021 - 10:21