فى النظام والسياسة والإعلام ../د.محمد ولد عابدين

 

بغض النظر عن مفهوم النظام فى الأدبيات السياسية المعاصرة ، ودلالة هذا المصطلح فى التعاطي السياسي والتداول الإعلامي ، ومايشوبه من تناقض وتعارض يراوح بين صفة المدح وسمة القدح أحيانا ، إلا أنى سأضرب صفحا فى هذا المقال عن ذلك السجال ، وسأنخرط فى سياق الفهم الشائع والاستعمال الذائع لهذا المصطلح.

وتأسيسا على هذا الطرح يمكن إيجاز تحديد ماهية ووظائف النظام السياسي فى كونه : " مجموعة عناصر مجتمعية متفاعلة فيما بينها وفق نمط سياسي وقانوني معين ؛ في بيئة محلية وإقليمية وعالمية ، من خلال مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية ، لتحقيق أهداف تنموية وأمنية؛ قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى ".

ولايغيب عن الأذهان والأفهام أن من آكد دلالات وخصائص النظام ؛ التكامل والتناغم والانسجام والعمل المؤسسي وخدمة الصالح العام ، ممايقتضى القطيعة الكلية مع القنوات التقليدية والممارسات الفردية المزاجية ؛ المناقضة لقيم وأسس الدولة المدنية العصرية.

وتستدعى اللحظة الراهنة من التاريخ السياسي المعاصر لبلدنا ضرورة التشبث بهذه المعاني ، واستلهامها فى منهج الحكامة وفلسفة التسيير ، بعيدا عن المهاترات العبثية والمناكفات العدمية والصراعات الشخصية المستحكمة فى سلوك بعض النخب المؤتمنة على تسيير وتدبير مصالح البلاد والعباد ، لاسيما أن الشروط الموضوعية متوفرة والصلاحيات الضرورية ممنوحة ، فلاعذر اليوم لمقصر أو عاجز ، ولامندوحة عن الصرامة مع مضيعى الأمانة  ؛ المنشغلين بالخصومات والصراع عن العطاء والأداء والإبداع. 

تحتاج المرحلة إلى جهاز حكومي تنفيذي ؛ يتمتع بكفاءة عالية يترجم جميع " التعهدات " إلى منجز تنموي ملموس وواقع خدمي محسوس ، كماتحتاج إلى خطاب سياسي مستنير وإعلام مهني قوي ؛ يجسدان أصالة التصورات ورصانة المقاربات فى هذه اللحظة المفصلية التى تواجهنا فيها تحديات جوهرية ؛ أمنية وتنموية - إقليمية ودولية ، وتنتظرنا أجندات سياسية واستحقاقات انتخابية ، تستدعى إلى جانب حصافة القرار ووضوح الرؤية والخيار ، ضرورة تضافر الأدوار بين أذرع وأجهزة الدولة الحكومية والسياسية والإعلامية.

ولعل من نافلة القول أن ثمة علاقة جدلية بين السياسة و الإعلام فى عصرنا الراهن ، فلايمكن تصور عملية سياسية بدون قناة إعلامية موازية لها ؛ فهي الوسيط الاستراتيجي لإيصال الخطاب السياسي إلى الجماهير للتأثير فيها وتشكيل وصناعة الرأي العام المستقبل للآراء والأفكار والبرامج ؛ ممايقتضى فهما عميقا للرهانات المرتبطة بنجاعة استغلال وسائل التواصل والإعلام فى هذه اللحظة المفصلية.

وانطلاقا من ذلك فإن الحزب مطالب اليوم - أكثرمن أي وقت مضى- باستلهام خطاب المرحلة والتحول إلى مدرسة فكرية ومنصة تنويرية وفضاء لنشر الوعي والتثقيف والتربية ، وإشاعة قيم الثقافة السياسية ، وتبنى أجندة واضحة وصياغة استراتيجية إعلامية ترقى إلى مستوى التأثير في المواطنين ، وتأطير تفكيرهم وتصوراتهم تجاه القضايا الوطنية المطروحة والمستجدة ؛ بغية تحقيق الأهداف السياسية المرسومة وتشكيل أرضية صلبة لمواكبة السياسات التنموية ومؤازرة العمل الحكومي؛ طبقا لرؤية استشرافية عميقة ومتجددة ، قائمة على روح المبادرة وديناميكية الفعل والعمل الاستباقي ؛ بعيدا عن ردات الفعل الباهتة والحراك الرتيب والحبو الفاتر والباهت على هامش الأحداث.

كماتحتاج المرحلة إلى مضامين ومحتويات إعلامية مهنية  ؛ قادرة على التعبير عن نبض المجتمع  ؛ مساهمة فى صناعة الرأي وتشكيل الوعي ؛ منسجمة مع أهداف وأولويات التنمية ؛ ومستجيبة لبناء الثوابت والمشتركات الوطنية ، ففى ظل انتشار البدائل الاتصالية الحديثة (وسائط التواصل الاجتماعي) أو مايسمى بالإعلام الجديد ، لم تعد الحكومات تجد نفسها معزولة فحسب ، بل أصبحت هدفا لهجمات شرسة قد يصدر بعضها بحسن نية وبدوافع وطنية، فى حين يصدر بعضها الآخر -فى الغالب- عن سوء نية ورغبة مبيتة فى زعزعة الاستقرار وبث خطاب الفتنة والفرقة فى مجتمعات غير محصنة فى وجه الشائعات والأخبار الزائفة والخطابات الهدامة.

وهكذا فقد الإعلام الحكومي ، نظرا لغياب الرؤية وضعف الأداء بريقه لصالح الإعلام الجديد ، فلم يعد العصر عصر الشعارات الصاخبة والعبارات الرنانة واللغة الخشبية والصور النمطية ، تلك صفاقة وسذاجة أقرب إلى الإعلان من الإعلام..انتهى عهد الدعاية السمجة ولبروبوغاندا الفجة!..وإنفاق الميزانيات الضخمة فى بنود وهمية وعقود سخية..الإعلام صناعة وفن وقواعد ، ومستقبله مرهون بالمصداقية والمهنية والمسؤولية ، وتلك قيم لا تنبت إلا فى الهواء الطلق ، ولاتورق إلا حين تسقى بماء الحرية.

 تستدعى المرحلة تشكيل طاقم حكومي منسجم ومتماسك ؛ قادر على الإنجاز والأداء والعمل بروح الفريق ومواكبة التطلعات وتنفيذ " التعهدات" ، كماتحتاج إلى ذراع سياسي فعال ورافعة حزبية صلبة تتمتع برؤية استشرافية وقدرة على التخطيط والتفكير الاستراتيجي الخلاق ، فضلا عن الحاجة الماسة إلى مشهد إعلامي وطني بحجمها ومقاسها ، يعكس قيمها وخطابها ويسوده التناغم والانسجام وعلاقات التكامل والتفاعل ، لاعلاقات الإقصاء والإلغاء!..وبهذا الثالوث نستطيع الوثوب من جديد والعبور الآمن بسفينة البلد إلى بر الأمان قبل فوات الأوان ، من أجل تنمية الإنسان وتأمين الأوطان ؛ عبر صياغة خطاب سياسي عميق وعقلاني ، وصناعة محتوى إعلامي مؤثر وقوي ؛ يدعمان قضايانا الوطنية الكبرى ، ويعضدان مسيرتنا التنموية ويعززان لحمتنا الاجتماعية ؛ سبيلا إلى إرساء نظام سياسي معاصر وبناء مجتمع حداثي مغاير ، تغيب فيه الذوات وتحضر المؤسسات.

د.محمد ولد عابدين 
أستاذ جامعي وكاتب صحفي.

سبت, 19/03/2022 - 11:15