حين يدخل رمضان تتحرك القلوب عطفا على الفقراء والمساكين، وتجود الأكف بكل خير، وترى العطاء سائرا بين الناس جابرا للخواطر، لكن الأجور العظيمة تقترن بالنيات العظيمة؛ ولذا فإن النيات مع الصدقات لا بد من توجيهها، فإن الصدقة من الأعمال التي يحبها الله عز وجل، ويحبها رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لذا فالواجب على المؤمن أن يتحلى بآداب الصدقة، ومن أهمها:
أولًا: أن يجعل صدقته لله تعالى، لا للناس، ولا للشهرة، ولا للرياء، ولا للمفاخرة، وإخلاص النية هي شرط وأساس لقبول أي عمل، ولا ننسَ أن أول حديث في صحيح البخاري عن النية، وهو حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات»، وذكره غير البخاري في مقدمة كتبهم، وقال عنه الإمام الشافعي: هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابًا من الفقه، ويشير الحديث إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل ومردود على صاحبه.
فالمتصدق وجب عليه أن يستحضر نيته قبل أن يتصدق، فلا يتصدق مباهاة، أو مفاخرة، أو ليقول الناس: إنه كريم وجَوَاد، وإنما يتصدق لله.
ثانيًا: أن يبدأ بالفريضة قبل النافلة، يعني أن يخرج الزكاة الواجبة المفروضة قبل صدقة التطوع النافلة، فمن كان من أهل الزكاة الواجبة، فعليه أن يسارع إلى أدائها أولًا قبل النافلة - الصدقة - والمسارعة إلى ذلك؛ فالزكاة الواجبة ركن من أركان الإسلام الخمسة، ولا يصح أن يقدِّم النافلة على الفريضة، وأولى ما يتقرَّب به المؤمن إلى ربه ما رضيه الله وافترضه، كما جاء في الحديث القدسي: «وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضتُ عليه...»[البخاري].
ثالثًا: أن يراعي أن تكون الصدقة مِن حلال طيب؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172][مسلم].
رابعًا: أن يتحرى قدر الاستطاعة محل صدقته، فلا يبذلها دون عناية، وإنما يسأل عن المستحقين، فإن وافقت محلها فقد جمع إلى ثواب نفسه انتفاع المحتاج بها، فحريٌّ به أن يتحرى الفقراء، والمساكين، والمرضى، والمحتاجين، والأيتام، والأرامل، والغارمين، الذي أعلنهم الله في قرآنه فقال، فقال: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [التوبة: 60].
فإن أهمل تحري المحتاجين، ودفعها دون تبين إلى من لا يعرف استحقاقه من عدمه، قلَّ ثواب الصدقة، فإذا اجتهد صاحب الصدقة في دفعها إلى من يستحق لكنه لم يقع على أهلها، فقد أجر بنيته، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «قال رجل: لأتصدقنَّ بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقنَّ بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يدي زانية، فأصبحوا يتحدثون تُصدِّق الليلة على زانية. فقال: اللهم لك الحمد على زانية. لأتصدقنَّ بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يدي غنيٍّ، فأصبحوا يتحدثون تُصدّق على غنيٍّ، فقال اللهم لك الحمد على سارق وعلى زانية وعلى غني، فأتي فقيل له أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله» [متفق عليه].
خامسًا: عدم اتباع الصدقة بالمنِّ على المتصدَّق عليه، فليس من الأدب، ولا من الذوق، ولا من الشرع أن يمُنّ المتصدق على مَن تصدق عليه، فإن فعل فقد أبطَل صدقته، وأذهب نفقته؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾ [البقرة: 264]؛ ولا يتوقف المر عند ضياع أجر الصدقة في الدنيا، بل الطامة الكبرى أن الله لا يكلمه يوم القيامة غضبا من هذا الفعل الذي يذل فيه من رزقه الله المال عيال الله الذين أوجب الله لهم الحق في هذا العطاء، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنَّان الذي لا يعطي شيئًا إلا مَنَّه، والمُنفِّق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبِل إزاره» [مسلم].
سادسًا: الأولى أن يحرص على إخفاء الصدقة، وكلما كانت الصدقة سرًّا، كان ثوابها أعظمَ أجرًا؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 271].
ومن الأصناف السبعة الذين يظلهم الله في ظله: «... ورجلٌ تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شِمالُه ما تنفق يمينه...» [متفق عليه].
ولعل السر في إخفاء الصدقة يرجع إلى تخليصها من الرياء والسمعة، فضلا عن الحرص على مشاعر الفقراء، حتى لا يعيرون بفقرهم، والمفترض في الصدقة أن تسترهم لا أن تفضحهم، ومن الناس من يبالغ في إخفاء الصدقة، فيضعها في يد أعمى لا يرى المعطي، أو يلقيه في طريق الفقير وفي موضع جلوسه، أو يضعه في ثوب الفقير وهو نائم،إلى غير ذلك من الصور التي يعرفها أهل الصدقات.
سابعًا: تدريب النفس على العطاء، فيتصدق، ولو بالقليل، فلا تحتقر المعروف مهما قل، ولا تستصغر الصدقة مهما صغرت، فرُبَّ درهمٍ سبق ألف درهم، ورُبَّ جنيهٍ واحد كان سببًا في دخولك الجنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشق تمرةٍ، فمن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ» [متفق عليه].
ومحال ألا يجد الإنسان شق تمرة ليتصدق بها.
ثامنًا: إذا أراد المتصدق أن ينال الخير والأجر الوفير فلتكن نفقته مما يحبه، ويرضاه؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]، وكان عبد الله بن عمر يتصدق بالسكَّر