أكتب هذه الأحرف سعيدا بأن الأيام لم تخذلني و بأن العمر ليس صدمات دائما و إنما قد تبتسم الأقدار ذات حين .
في بداية العقد الماضي عصف بي الحزن بعد أن أسهب صديق موريتاني قادم من المدينة في شرح مآخذه على المجتمع الشنقيطي هناك ، كان الرجل يروي و هو لا يعلم أنه ينعي إلي فخر الجدود و كبرياءهم .
ظل حديث ذلك الفتى وخزا مكتوما في القلب فبِمَ نفاخر الناس إلا بآدابنا و علمنا ؟!
ألسنا من إذا فاخرهم الناس بالمال و النشب فاخروهم بالعلم و الأدب ؟!
لم تحقق مويتانيا شيئا من التنمية لكنَّ لها إرثا علميا و أخلاقيا يجب أن تحرص عليه .
كما أفسدت المطامع السياسة و التنمية عندنا فإنها همَّتْ بأن تُجهز على ذلك الإرث حتى في بلاد الله الواسعة لولا أن تداركنا لطف الله .
تطلب الأمر عقدا من الزمن حتى يعود إليَّ بعض التفاؤل و حتى أزداد يقينا بأن صرحا شيده رجال زاهدون في سَقَط الدنيا ، غارفون من بحر القلب و العقل فقها و تقوى، واقفون على ثغر اللغة، ما كان لينهار تحت معاول الشهوة و القصور .
بني وطني على أديم هذه الأرض يمكنني القول بعد أن عرفت الكثيرين من إخوتكم في الحجاز :إنكم لن تُؤتواْ من قِبَلِ هؤلاء لكنني أخشى أن تقصِّروا ذات يوم في حقهم .
ما زالت قيم الشنقيطي الأصيل تسكنهم و الولع بالأدب و المأثور شاغلَهم و لكم رأيت في عيونهم أشواقا و لربما إشفاقا على صحراء الملثمين ، و هم بالإضافة إلى ذلك توَّاقون إلى إكرام الحجيج من بني جلدتهم .
كنت كلما سرتُ في مِنًى بين الخيام احتضنني فتى منهم مُسلِّما و معبرا عن اعتزازه بي و نادى رفاقه أنْ سلِّموا على فلان ، فسبحان الله كيف أقاموا لي وزنا و أنا الذي لا يرى لنفسه أكثر من شرف المحاولة ؟!
سبحان الله ما أطيبهم و أنبلهم .
لا يُسعد الشاعر في الدنيا موقف أكثر من لقيا إنسانٍ يحفظ شعره .
كان عبد الله صال عاملا بسيطا من جرنالية تازيازت اختارته القرعة ليحج هذا العام (مكرمة من البطرون كما يكرر دائما) جمعني بعبد الله السكن في المدينة المنورة ، وكانت أيامُ كوركل أسكنته عشق الشاي ، لكأنما هو شهيد مسجى حين لا يشرب كأسا منعنعا و لكنَّ نعناع بوكى بعيدٌ الآن ثم إن قلة الخبرة جعلته ينسى (أمَّاعينَهُ ) .
لم أجد غضاضة في أن أبوح لأخ عزيز هناك بحال صديقي فما كان منه إلا أن أتى على الفور من إحدى العائلات الشنقيطية بأكثر أمّاعينٍ زخرفة و أصالة مع عدة كاملة لا ينقصه بعدها إلا أن يقول اسقني و اشرب .
سنكتشف بعد أيام أن تلك العائلة الكريمة بعثت أيضا بعدة وعتاد المشروب المحبب لدى سكان هذه الربوع إلى جيراننا في الفندق.
كانت ليالي المدينة تفتح بعد يوم روحي مشرق بابا للحوار بيني و شباب طيْبةَ فيقيني أن الأرض ستظل مرتبطة بالسماء .
كنت رفقة الإعلاميين القديرين عبد الله ممين و محمد محمود أبي المعالي ضيوفا ذات ليلة على رسل العلائل بدعوة أخوية من شابين شنقيطيين .
على بعد خطوات من نقطة انطلاق جيش العسرة ملأنا أقداحنا لبنا و هبت عواصف الفكر ، لقد كان اتجاه معاكسا من غير فيصل .
كان محاوري مثقفا إلى أبعد الحدود مقتنعا بما يقوله و كان صاحبه عميقا من غير صخب .
إنها مفاجأة ثقافية فربما يكون فكر اليسار وصل ديار الأنصار .
و فهمت أنهما شنقيطيَّان معتدلان ربما كانا يساريين ضاقا بسطحية الوهابية كما يحلو للكثيرين هنا أو هناك وصفها .
كان أحد شبابنا في المدينة مشغولا بإعماله لكنه كلما مرَّ بي أتحفني بفكرة أو نكتة أو أبيات ليست مما أو تيتُه .
ذات مساء آخر سأكون في حي السيح رفقة صديق شاعر قديم يشغل الآن مركزا قضائيا هاما و زميل مهندس خلوق جمعني العمل و إياه .
يؤرجحني حي (السيح) بين ذكريات حلب و شنقيط و تدور علينا كاسات المعتقة الحلال و تدور أحاديث الفكر و الثقافة فإذا القوم شعراء مثلي غير أن الله زادهم بسطة في علوم القرآن و الحديث و شتى الفنون .
أيام مكة بعد أن تؤدى المناسك تجعلك جسدا منهكا و روحا نشطة و طموحا قرشيا .
كانت ليلتنا لدى أبي العلاء سهرة مشهودة أجاد فيها الشاعر يحيى و أشجانا فلله دره من فتى مُجيد مَجيد .
لبس الكنتيُّ لبوس الفصاحة و دارت أطراف الحديث بيننا فثمة القرشي و الهادي ينثران من ورد الشجن ما يغري أبا العلاء الشنقيطي بسكب طيبه المكي .
أخذت من هذه الجلسات و غيرها أن الحالة الثقافية بخير بين صفوف شبابنا في الحجاز فما قابلت منهم إلا أديبا أريبا .
أيكون ذلك حظا ساقته إليَّ بركات البلاد المقدسة ؟!
طلبت من الذين جالستهم على انفراد أن يعطوني توقعا لعدد الشعراء الشباب الناضجين فلم يقلَّ العدد المُتوقع عن خمسين شاعرا في مكة و المدينة ، مع إجماع على تفشي عدوى القراءة و الاطِّلاع .
و لن أنسى أحاديث حامدٍ ذي التسعة عشر ربيعا فكم تشي بعقل راجح و عمق أصيل و معرفة طولى ؟!
و كم أحسست بشوقه إلى بلاده التي لم يرها ؟!
أحسست بقرب الفتى الواداني مني تفكيرا و طرحا فصحبته و كنت إذا دُعيت حرصت على أن يكون رفيقي ، قدِمَ والد الفتى رحمه الله إلى تلك الديار بعد أن استقال من الشركة التي أعمل حاليا بها (اسنيم) و قرر اللحاق بوالدته التي قررت ألا يضم أعظمها إلا ثرى البلد الأمين .
كان الانطباع الأخير الذي خرجت به من معرفتي لهؤلاء و غيرهم أن انتساب هؤلاء العضوي لبلاد شنقيط يكاد يكون أصدق و أقوى من انتسابنا و أننا مقصِّرون بحق أحفاد حملة اللواء .
يقول أحدهم : نريد أن نستقبل هنا وفدا من اتحاد الأدباء و الكتاب الموريتانيين ليطلع على قدرات الموهوبين و يرى بأم عينه مستوى الحراك الثقافي .
قلت له إنني مقتنع بأهمية ذلك لكنه ليس بمقدوري أكثر من كتابة الأمر أو قوله .
ها أنذا فعلتُ يا صديقي .
تحية لأهلنا في مكة و المدينة ، تحية للشناقطة حقا في كل مكان