طبيعة المثقف فينا، كذا المدون والصحفي والسياسي، أن يستخشنوا في الغالب الأعم، وأن يستحسنوا في النادر الأخص. فكلما فشل وزير أو أخطأ أو تراخى أو تقاصر فهمُه، سُمع لنا ركز صاخب، وحسيس صارخ وطنطنة مدوية وألف ألف دندنة. وعندما ينجح الوزير أو يُصيب أو ينشط أو يستوعب، يعمّ الصمت، وتموت الانطباعات، وتعود الأقلام إلى أغمادها، كأنما نُفخ في صور المداد وصفحات الجرائد وجدران الفايسبوك.
أمرنا غريب حقا!!.. إن من أهم أمارات الإصلاح أن نستخشن في محل الاستخشان، وأن نستحسن في محل الاستحسان، كي نثبط هذا ونشجع ذاك، عسى نكون إيجابيين خدمة للمصلحة العامة.
لأول مرة في تاريخنا أسمع عن "أطباء بلا حدود" في بلادي، لكنني لم أسمع، بموازاة معها، كلمات تُشيد وحملات تُطري ومقالات تمجّد، كما لو أن وجود المثقف والمدون والصحفي والسياسي ليس لشيء سوى النقد والشتم والتشنيع والقذع.
لو أنكم تدركون حجم مآسي مواطنينا في السهوب والوديان، وعلى التلال، وفي الأنجاد والأغوار والربا والهضاب، لتفاعلتم، أيما تفاعل، مع قرار وزير الصحة بإطلاق مستشفى متنقل في الأرياف والقرى من أجل تقديم الاستشارات والعلاجات وإجراء العمليات الجراحية.
كان ذلك حلما يستحيل أن يتحقق في بلاد لا يتعالج فيها، في العادة، إلا الميسورون من أبناء المدن الكبيرة. ها نحن اليوم نرى، في الواقع المعيش، وزارة تعبّئ مئة وستين فردا من طواقمها الطبية والتمريضية لمعالجة الأطفال والنساء والعجزة، من المزارعين والبدو الرّحّل، سواء تعلق الأمر بأمراض الأسنان، أو بمشاكل الحمل، أو بجراحة العيون، أو بالحصباء أو الملاريا أو الربو أو الزكام أو الضنك أو الكزاز أو الإسهال أو السعال أو الالتهابات...
مؤسف جدا أن أقلامنا وشفاهنا لا تُحْسن غير الهجاء، وإلا التصفيق في غير محله والتملق من أجل الكسب. لقد آن لنا أن نمجّد ونستحسن من أجل المصلحة العامة، وأن ننتقد ونستخشن من أجل المصلحة العامة، دونما نظر إلى المآرب الخاصة، أو العلاقات الضيقة، أو المصلحة الأنانية، أو تصفية الحسابات.
إن علينا أن نشد على يد وزير الصحة، وأن ندعم، بكل طاقاتنا، فكرة "المستشفيات المتنقلة" لأنها، بالفعل، تخدم الفقراء والمعدمين، ولأنها توفر لهم جهدهم وراحتهم ونقودهم، ولأن الصحة هي نقطة انطلاق التنمية، فالمجتمعات المريضة لا تستطيع النهوض. بوركتَ، وزيرَنا المختار.