"تطرق الباب تدري أنك ستجدهم حيث تركتهم". من حق الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن ينشد بيت الشاعر العراقي على هذا النحو، بل من حقه أن يجترح إبداعا عروضيا يصبح معه البيت مستقيما على هذا المنوال.
عندما ارتحل في نهار رمضان كان يدري أن إفطار الجنود ما زال شهيا بالطعم الذي كان عليه أيام القيادة الميدانية. "لم يكن الرئيس غزواني من الذين يقودون جنودهم من الخلف" أيام كان ضابطا، وقد زارهم ليخبرهم أنه لم يتعود بعد تركهم في ثكناتهم، لم يتعود بعد القيادة من المكاتب، وما زال يحن إلى أيامه بينهم. يحن إليها حنين من لبى نداء الواجب في ميدان قتال آخر، لكن الحنين إلى رفقة السلاح وإلى حياة الثكنات على الثغور ما زال يستبد به.
تتجاوز مشاعر بعض القادة مستوى العلاقة بين القائد والمقود إلى مرحلة الأبوة، يتغشاهم الحنين بين الفينة والأخرى، فلا يجدون بدا من طرق الباب كما طرقه شاعر بغداد بعدما كبر أبناؤه "يدري أنهم رحلوا".
لكن القادة الذين أسسوا ليكبر الأبناء وتكبر بهم المؤسسة، ويكبر بهم الوطن، يغالب الأعداء وينتصر في المعارك، هؤلاء يدركون أنهم سيجدون جنودهم حيث يجب أن يكونوا، حيث اتعدوا ذات يوم، وحيث البنادق مشرعة في نحور العدو، وحيث يتلبس الانتماء للوطن طعم الفداء والتضحية.
الشجاعة والتضحية كانت إدام ذلك الإفطار الشهي، على ناصية الخطر، وتلك العزة في عيون المقاتلين كانت أتاي الإفطار بعد يوم صوم طويل.. وفي ذكرى بدر! يكون لإفطار المقاتل الصائم في الثغر طعم التاريخ، تفوح معه روائح الذكريات العبقة.
عشر سنوات من قيادة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، في ظروف استثنائية، انتشلت المؤسسة العسكرية من وضع صعب كانت تعيشه كل مستوياتها؛ تسليحا وتدريبا، ورواتب، ولكن إنجازها الأهم أنها أعادت تعريف العلاقة بين الجندي والقائد باعتبارهما رفيقي سلاح، يتوزعان الثغور، ويخوضان المعركة متسانِدَيْن، لا ميزة لأحدهما إلا بقدر ما يثخن في العدو، وبقدر ما ترتفع وتيرة المعارك على الثغر الذي هو فيه.
يغادر الرئيس العاصمة حيث صخب السياسة ومعاركها، وحيث ترتفع الأصوات، يزاحم فيها المصلحي الشخصي، والحزبي الضيق، العامَّ الوطني، إلى هدوء مجابات الصحراء حيث سكينة اليل الرمضاني في حضرة الجندي. في حضرة الجندي تسكت السياسة ويتحدث الوطن، يسكن التنافس ويحل محله التساند. في حضرة الجندي يكتب متن تاريخ، ويترفع عن الشروح والهوامش.
عندما ينتقل القائد لتحية الجندي في مكانه الذي اختارته له الجندية، فإن ذلك يكون درسا في القيادة يبتدع لأول مرة في هذه الربوع، كما يفعل بقصص نجاح في مجالات شتى تكتب على نار هادئة، ويسري نداها متئدا يتتبع كل العروق والمسام في جسم الوطن ليختم يوم صيامه، وقد ابتلت العروق وثبت الأجر، وصعدت إلى السماء دعوة تدارك الله بها هذا الوطن حين وضعه في أيدي جنوده الأمناء.