أعلام ظلمهم المؤرخون.. العلامة الشيخ محمد بن الرباني (الحلقة3)

العلامة الشيخ محمد بن الرباني الحلي التندغي (ت. 1315 هـ -1897 م):

في النصف الثاني من العقد الثالث من القرن الثالث عشر تقريبا، عرف حي من أحياء ارماظين الجكنيين الأماجد ذات رحلة انتجاع قصي في منطقة "باغنه" على خط التماس بين الحدود الغربية لجمهورية مالي وأقصى الشرق الموريتاني، ميلاد طفل لن يكون كغيره من أترابه، بل سيكون له في قادم الأيام شأن مذكور وصيت مشهور، يتعلق الأمر هنا بالعلامة اللوذعي الأعجوبة والشاعر المصقع الشيخ محمد عبد الرحمن بن محمود بن الرباني بن عبد الله الملقب بلَّيهنا بن محم يارُ بن المختار بن محم بن المختار بن يعقوب بن علي بن عبد الله الجد الجامع لأغلب بطون حلة الأربعين جوادا وبعض إخوتهم الغربيين، وكثيرا ما عرف الرجل اختصارا بالشيخ محمد أو بالشيخ بن الرباني أو بشيخ الساحل أو بذي اللحية الحمراء... كان أبوه محمود كما وصفه العلامة محمد امبارك اللمتوني من العلماء الراسخين، كما كان جده العلامة الرباني أحد أبرز علماء عصره، مشهورا بتواضعه وحلمه، حتى أن الزعيم العلامة عبد الله بن سيدي محمود الحاجي (ت.1250 هـ ) كان يقول إذا سمع قول الله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما...)، يقول: "هذه صفات شيخي الرباني". أما أم الشيخ فهي مريم الملقبة خير النساء بنت ألمين عمي بن الفالي بن الكوري بن سيد الفالي الديمانية، نشأت في منطقة "اركيبه" مع أخوالها من تجكانت وكانت كما وصفها المؤرخ هارون بن الشيخ سيديّ حافظة للقرآن مشاركة في العلوم.

ارتحلت الأسرة بابنها وهو لا يزال في مرحلة الطفولة المبكرة ميممة شطر أحياء قومه في منطقة آمشتيل وما جاوره في النواحي الشرقية والشمالية الشرقية والجنوبية الشرقية من منطقة بوتلميت، في هذه الربوع وفي هذا المحيط المتميز نشأ الطفل وأقبل إقبالا عز له نظير على دراسة العلم وتحصيله، وكان متقد الذكاء سريع الفهم قوي الحفظ ومع ذلك فقد كان مجدا ومجتهدا بشكل لافت. 

بعد أن حفظ الشيخ القرآن أخذ ينهل من ينابيع العلم، وكان والده محمود قبلته الأولى ومعلمه الأول، وتشير بعض المصادر إلى أنه التحق في مرحلة مبكرة من عمره بمحظرة العلامة حرمه بن عبد الجليل العلوي (1150هـ -1243هـ)، كما كانت له حسبما كتب هو نفسه إطلالة على محظرة الكحلاء والصفراء صحب خلالها شيخ المحظرة العلامة الشهير محمد محمود بن حبيب الله بن القاضي الإجيجبي (ت. 1277 هـ)، لكن شيخه الأشهر على لسانه كان ابن عمه الشيخ محمد أحمد المقلب أيدَّه بن محمذ بن المختار بن أحمد (ت. ق. 13 هـ) وعلى يديه تصدر قبل أن يتصل بتاج عصره وشيخ شيوخه الشيخ سيديَّ بن المختار بن الهيبه الإنتشائي (ت. 1284 هـ) الذي أجازه "إجازة مطلقة في سائر العلوم وسائلها ومقاصدها تعلما وتعليما...".

في منتصف عمره انتقل الشيخ من مواطن قومه من حلة الأربعين في شرق اترارزه وغرب لبراكنه إلى منطقة الساحل مجاورا على الخصوص أبناء عمه الأكرمين من بني حبيني، حيث طاب له المقام هناك مدرسا ومفتيا وقاضيا ومربيا وظل يألف رحلة الشتاء إلى أقصى الشمال ورحلة الصيف إلى أقصى الجنوب على ساحل المحيط الأطلسي إلى أن وافاه الأجل المحتوم في عام "ادخيخين" الموافق لعام 1315 هـ / 1897 م، ودفن فوق "مدنة ول الرباني" في الطرف الشمالي من جزيرة تيدره على الجانب الغربي من حوض آركين، يقول العلامة سيد محمد الملقب الشريف ولد سيدي احمد ولد الصبار المجلسي ( ت. 1342 هـ ) في رثائه:

أيها البحر دونك البحر حــــلا فلتقل مرحبا وأهلا وسهــــــــــلا                    

كنت أصل البحور واليوم حقا صرت فرعا من بعدما كنت أصلا.

وقد أخذ عن الشيخ رحمه الله خلق كثير وتصدر على يديه جمع غفير من رجالات الفقه والأدب والتصوف من جهات وقبائل شتى نذكر منهم أبناءه: محمود والشيخ محمد احمد (1266 هـ -1353 هـ) وعبد الوهاب وأحمدو ومحمد المصطفى (ت.1385هـ) وعبد الله وعبد القادر (ت. 1372 هـ) والشيخ عبد العزيز (ت. 1377هـ) وكانوا جميعا -على حد وصف المؤرخ المختار بن حامد - قد أحرزوا مستويات علمية عالية، ومن أشهر المتصدرين على يديه غير هؤلاء العلامة الشيخ محمدو بن حنبل الحسني (ت. 1302هـ) وابن عمه الشاعر محمذن بن السالم الحسني (ت.1310 هـ) والشيخ المستعين بن صلاحي بن المقري التندغي البوحبيني (ت. 1360هـ) والشيخ سيد المختار بن عبد الجليل التندغي الحلي (ت. 1367هـ) وغيرهم...

لقد نسج الشيخ شبكة علاقات واسعة مع أبرز معاصريه من علماء وأدباء وأمراء وشيوخ، نذكر منهم ممن لم نذكر سابقا: محمدي (بدي) بن سيدين العلوي (ت. 1265 هـ) ومحنض باب بن اعبيد الديماني (ت. 1277هـ) ومحمذن فال بن متالي التندغي (ت. 1287 هـ) ومحمد بن محمد سالم المجلسي (ت. 1302هـ) ومحمد مولود بن أغشممت المجلسي (ت. 1327 هـ) والشيخ صلاحي بن أحمد المقري الملقب بلَّها الأصغر البوحبيني التندغي (ت. 1331 هـ) وأمير اترارزه اعل بن محمد لحبيب (ت. 1303هـ) وأمير آدرار أحمد بن امحمد (ت. 1309 هـ).

كان الشيخ أديبا وشاعرا مطبوعا أبدع في الشعر الفصيح مثلما أبدع في الحساني، يقول من قصيدة في رثاء شيخه الشيخ سيدي الكبير:

هو الرزء كل الرزء رزء من أسلما

                        فلم يبق في الأنفاس للصبر سلما

رزينا بغوث ما يقدر قدره

                            فلم نر رزء كان أدهى وأعظما      

رزينا بغوث العصر كافل أهله

                               وأكرم موروث لوارث أكرما          

 نعزى به لما نهنى بنجله

                           فما برح المحزون حتى تبسما        

نراع فنبكي ثم نضحك نعمة

                              فكيف لنا أن لا نراع وننعما           

فإن الذي نبكي وندفن قائما

                     على قبره في الصف صلى وسلما           

فلم نر مفقودا كمثل مصابنا

                          ولم نر مفقودا يوازي المقدما          

فلله قلبي كيف يحويه قالبي

                               فإن بقلبي جنة وجهنما...

 

ويقول ذات سفر في وداع قومه من آل بوحبيني:

ألا أيها القوم الذين هم هم

                         هم الصيب المُروي لكل مكان                

أقمت زمانا فيكم بين سيد

                لبيب إذا الخطب المخوف شجاني               

وبين فتى لا يستمل حديثه

                          وبين غزال راقني فسباني                  

لئن كنت أزمعت الرحيل فمقلتي

                       وقلبي وكفي بعدكم ولساني          

هموع ومشتاق وعون ومادح

                        مصون لديه سركم بصوان.

 

ومن طريف شعره في حوار مع الرعد:

كأن الغيث حين دنا وولى

                        وخاصمنا على بعد رعود           

يقول لنا لسان الحال منه

                       تعالوا فانظروا فأنا بعيد        

بعيد منكم والبعد منكم

                         فإن عدتم لربكم أعود      

فقلنا في الجواب له مقالا

                  وقول الحق يلهمه السعيد       

فإن كنت المُغيث فلا تغثنا

                   فمولانا الودود لنا ودود

يجود بك الكريم غدا علينا

              على رغم تجود ولاتَ جود         

ومن كرم يبدل ما اكتسبنا

                   وما نرجو زيادته يزيد

هباءٌ ما تريد وما أردنا

                 وإن الله يفعل ما يريد.

 

ومن شعره الحساني قوله:

بنْ عمك لدارك بالخيرْ               دور بالخير الخير أخيرْ                   

أتم احطبلُ فلِّ يختيرْ                كدْ الِّ يوخظ يختيركْ                       

وِيلَ كامْ أدارك بالغيْر.         واختر لك عن خيرك غيرك                       

دور بالغير أدِير الخير                فلِّ فيه إِجمَّل خيرك.

 

ومنه قوله في الغزل :

آنَ واغْل غيد اللامَ                     لامتن سابـﯖْ لامتنَ                        

ألا متن لعدن لامَ                     أعاكب لامتن لامتنَ.

 

ومما قيل فيه قول الأديب الشيخ كلاه بن صلاحي بن المقري (ت. 1346هـ ) من قصيدة مطلعها: 

إن بين الضلوع آي ربوع            هجن ما هجن في الحشى والضلوع     

آي ربع لأم عمرو وسلمى.                 قبل صرف النوى وشت الجميع     

صاح آي الربوع عرج عليها.                 واسألن عن لميسَه آي الربوع   

ثم جد بالدموع فيها فعار.              عن ربوع الضلوع صون الدموع  

جرَّت الريح فيه بعدي ذيولا.                      وجرَت فيه ديمة للربيع  

فهو كالوحي أو كبُرد يمان.                 زخرف الوشي منه بالتوشيع      

قد تردت من النبات برودا                       زانها القطر منه بالتضليع      

وتحلت نضارة وابتهاجا                      أنف حسناء ما به من كنوع     

كابتهاج البلاد بالشيخ لما              حلها الشيخ مثل شمس الطلوع    

كل ينبوع علم عالم قوم                     فهو من ماء علمك الينبوع    

رب بدء يمج منه لغاما                          كلغام القريع عين القريع    

وتصدى إلى لقائك يوما                     فانثنى جد مقصد مصروع   

عجبا منه كيفما قد تمطى                       لارتقاء على أشم رفيع    

إن ترى الصم طالعات العوالي              لم يكن للوعول بالمطلوع      

وجرى نحو شأوكم وهو يدري       حين أمسى بشـأوكم ذا ولوع   

أن نسج القريض نسجك لما                عز كل الأنام نسج البديع       

ومراضيع كالبلايا أيامى                      سامها دهرهن بالتضييع   

لم تزل مطعما لهن وتكسو        حين تكسى البرى بلحق الصقيع   

وغشوم يهاب أرضك باغ                هيبة الليث في عرين منيع    

إن من قال قد سمعت بمثل         لك في المجد فهو غير سميع      

ولمن قال إنه قد رآه                        إنما قد رأى بطرف وجيع.

 

ترك الشيخ مؤلفات ذكر ابن حامد أغلبها في موسوعته، منها:

- الفلك المدسر، وهو حاشية على الميسر للعلامة محنض بابه بن اعبيد

- اللمعان في تفسير القرآن (لم يكتمل)

- نظم في معاني أسماء الله الحسنى

- منازلة المقاسين لنازلة آل باسين

- حل القفل بالمفتاح لعفاف ابنة عبد الفتاح

- بحث في مسائل الوقف

- الوسائل السبع إلى المسائل السبع

- نقض النقض وعض البعض للبعض

- صرف الموائد في العرف والعوائد

- مجموعة كبيرة من النوازل، منها: نوازل في الأنكحة، النازلة الحمارية، نازلة الجمل...

- مجموعة من الرسائل، منها: رسالة حول الواهبة نفسها، رسالة في تأخير أداء الزكاة، ورسالة حول اعتبار العرف في الكفاءة ورسالة "محمد لبات" وهي مرافعة قضائية... 

- مناظرات وردود وتسليمات، منها ردود على القاضي محمدن بن سيد احمد لخليفه العلوي، والشيخ أحمد حامد بن مختار الله التندغي، وردود على القاضي محمذن بن محنض باب بن اعبيد الديماني...

- رسائل وفتاوى وأنظام متفرقة في الفقه واللغة وعلوم القرآن وغيرها

- ديوان شعر، من تحقيق الأستاذ: عبد الله بن محمد.

 

تغمد الله الشيخ وجميع موتى المسلمين بواسع رحمته وأسكنهم فسيح جناته وغفر لنا ولهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

اثنين, 25/03/2024 - 23:26