أعلام ظلمهم المؤرخون.. الشيخ عبد القادر بن الرباني (الحلقة6)

الشيخ عبد القادر بن الرباني(ت. 1331هج):

هو أحد الأعلام البارزين؛ والعلماء العاملين؛ والأجواد المشهورين الذين سطروا أسماءهم بأحرف بارزة في سجلات البذل والإنفاق؛ صوفي قانت؛ وسيد في قومه مكين، ولد نهاية العقد الثالث أو بداية العقد الرابع من القرن الثالث عشر الهجري في منطقة الترارزة الشرقية مما يلي إمارة البراكنة لأسرة لها مكانة علمية واجتماعية سامقة ومن أبوين رفيعي الشأن هما:

- محمذن بن الرباني بن عبد الله (بلَّيْهنا) الحلِّي التندغي، 

- وابنة عم أبيه فاطمة بنت المختار بن بليهنا.

 كان محمذن على غرار أخويه الأصغرين محمود والمختار معدودا في أهل العلم والسيادة والكرم وكان والدهم العلامة الرباني مؤسس المحظرة الربانية المشهورة أحد علماء عصره المشهود لهم بعلو الكعب وسمو المنزلة في شتى فنون المعرفة ومكارم الأخلاق والريادة في عمل البر والمعروف شأنه في ذلك شأن شقيقه المختار جد الشيخ لأمه، الذيْن يقول في وصفهما الشاعر:

لخيام اخيام اهل التّڭدامْ 

                         والْشيفرْهم ما يتندّمْ

الرباني عـــالم وِمَــــامْ 

                     والمختار افقيه امسڭمْ.

 

يفترض أن يكون الشيخ قد درس على والده وربما على أعمامه و/ أو بعض شيوخ قومه أو سواهم، وإن لم تكن هناك معلومات موثقة أو حتى شفهية تؤكد أيا من ذلك، لكن هناك مرحلة متقدمة ولعلها الأهم في حياة الشيخ الدراسية، قد وثقها المؤرخ العلامة المختار بن حامد في موسوعته وسجلها بما نصه:

(صحب ابن متالي ثلاث سنين، وأجازه في علمي الظاهر والباطن، وقال له سِرْ إلى أهلك، فلما فصَل استصغر ما عنده، ورجع إلى شيخه فأنشده هذا البيت:

إن سالني سائل عما انثنيت به 

               يا شيخ من عندكم ماذا أقول له؟

فقال له الشيخ:

قل انثنيت بحمـد الله متصفا 

                 بما من الحمد والخيرات كمّلـه.

فجاء إلى أهله ودخل في لعب الكرة مع لِداتِه وراح متعبا وأغمي عليه ثلاث ليال، ولما أفاق قضى صلواته وقال لقومه أيكم يريد التعلم فليحضر، وكان متخصصا في الحديث والفقه.. انتهى).

 {ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.. }

 

يُقال إنه بعد ذلك بحث عن كُتب ليستعيرها فلم يجد ما يشفي غليله، فجهز قافلة من عشرة جمال مع يلزم من زاد ومتاع واصطحب معه أعوانا وسار إلى مملحة كدية الجل في تيرس الزمور، ومن هناك شرع في تجارة الملح حاملا إياه من المملحة إلى مدينة سيكوفي في أرض السودان الغربي (مالي) على مدى ثمانية أشهر فحصل من ذلك على مال وفير سخره لاقتناء الكتب شراء ونسخا مما مكنه من جمع أكثر من ثلاثمائة كتاب في مختلف فنون المعرفة عاد بها إلى دياره لتكون نواة لمكتبته التي ستغدو إحدى أهم وأكبر مكتبات المنطقة وأغناها بنفائس الكتب، وظلت هذه المكتبة العامرة مَعينا يستقي منه كل ظمآن يشيم بين صفحاتها بروق العلم والمعرفة مدة حياة مؤسسها وحتى بعد رحيله ورحيل أبنائه من بعده، ولما كان الناس أهل ظعن وانتجاع كان من اللازم توفير مأوى آمن ومناسب يحتضن المكتبة بشكل دائم ويقيها من عاديات الزمان ويحفظها من عوامل التعرية، فتم تشييد أخصاص خاصة لهذا الغرض على مشارف بئر ذات النمل (انتوطفين)، وفي إحدى سنوات المَحْل القاسية التي أبعد الناس فيها النجعة طافت امرأة مجنونة بالأخصاص وأضرمت فيها النيران واضعة بذلك حدا لتراث علمي ثَرٍّ وإرثٍ إنساني زاخر بما حواه من مخطوطات نادرة ونفائس علمية لا تقدر بثمن، ضاعت كلها أدراج الإهمال وإكراهات الظروف الطبيعية والبشرية القاهرة...

 

كانت للشيخ محظرة مورودة ومجلس علمي وروحي عامر بما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وكان له تلامذة يسمون "الزّهّارة" لِما كان يصدر عنهم عند القراءة والذكر من أصوات عالية مجلجلة تشبه زئير الأسود، وكان من أبرز الآخذين عنه أبناؤه النجباء:

- محمد، المتوفى خمسة عشر يوما قبل موت والده عام 1331هـ/ 1913م 

- محمدن، خليفة والده في العلم والتدريس، توفي عام 1337هـ/ 1919م

- أحمد محمود، سيد قومه المتوفى عام 1363هـ/ 1944هـ.

 

اشتهر الشيخ عبد القادر إلى جانب علمه الوفير وعمله الجليل بإنفاق منقطع النظير وكرم حاتمي سارت به الركبان وشهد به القاصي قبل الداني، تساعده على ذلك ثروة معتبرة سخرها لتنفيس كروب الناس وقضاء حاجاتهم..

 ومن الأمثلة المتواترة في هذا المضمار ما جرى له مع أحد الأعيان المعروفين والأعلام المشهورين، ممن له صلات قربى وأواصر مودة وروابط روحية متينة بعشيرة الشيخ، وقد مر به ذات يوم عند خيمته المضروبة في سهل واد الّل (واد الإله) على بعد كلوميترات معدودة جنوب علب آدرس وأخبره بأنه مطالب بدفع دية مغلظة ليفتدي بها ابنا له، وكان الضيفُ يسأل الشيخَ عن مضارب أحياء المجموعة التي عادة ما يتحرك أغلبها ضمن مثلث تتساوى تقريبا أضلاعه ما بين علب آدرس وما يڭوم (المُقيم) وانتوطفين ونقطة مركزه بين رُبى المِراد "زِراتْ المِرادْ"، فأخبره الشيخ بمنازل الناس لكنه طلب منه أن يمكث معه أيام الزيارة الثلاث ريثما يرتاح وتلتقط راحلته أنفاسها وينفضا عنهما وعثاء السفر، فاستجاب الضيف المبجل لمضيفه الذي استغل الوقت وأرسل رعاته سراعا خلف قطعان إبله يلُمون شتاتها ويجمعونها إليه، حتى إذا حان موعد وداع الضيف الكريم كانت بغيته وهي هُنيْدة من الإبل -وفق بعض الروايات- أو نصفها - وفق روايات أخرى- قد أطلقت من عُقلها في انتظاره ليعود بها أدراجه من حيث أتى معززا مكرما.. 

وقد حدثني أخي العالم المحقق محمد عبد الرحمن بن أيده حفظه الله أن العلامة الشيخ سيديّ باب بن الشيخ سيديّ علِم ذات يوم بوصول كتاب نادر في ذلك الوقت من كتب الحديث إلى مكتبة الشيخ عبد القادر، وهو "شرح النووي على صحيح مسلم" فأرسل إليه يستعيره، وكان الشيخ باب فحلَ السنة الذي لا يقدع أنفه مهما عزّت الكتب وضن بها كل ضنين، فاستمكث الشيخ الرسول وجمع أبناءه وكانوا خطاطين مهرة وشرعوا في نسخ الكتاب وما أن انتهت أيام الزيارة الثلاث حتى فرغوا من نسخ الكتاب وأرسلوه هدية للشيخ باب الذي عاد رسوله ليروي القصة كاملة لشيخه، فما كان من هذا الأخير إلا أن أعاد النسخة الأصلية لصاحبها وطلب تزويده بتلك النسخة الجديدة المنقحة بخط الشيخ عبد القادر وأبنائه، ولعله من حسن حظ تلك النسخة أن يكتب لها البقاء، إذ يفترض أن تكون الآن محفوظة في مكتبة آل الشيخ سيديّ.. والله أعلم.

  

كانت رُبى نجد البشام (علب آدرس) والتلال والسهول المحيطة به مواطن الشيخ المفضلة وكان حيه يخيم في تلك الربوع على مدار السنة وفي أغلب الأزمنة، ومن هنا حظي بشرف إصلاح البئر القديمة وإحيائها مرة على الأقل بعد فترة موات وتعطل شهدتها بعد حفرها أول مرة من طرف ابن عمه محمد رمظان بن المختار بن الرباني.

في تلك الربوع الطيبة العزيزة على قلبه عاش الشيخ حياته المباركة التي امتدت مائة عام أو تزيد إلى أن لحق بالرفيق الأعلى عام 1331هـ/ 1913م ودفن في مقبرة علب آدرس مع أخويه الفاضلين سيد المختار ومحمدو (أدن) وابنه محمد بعد حياة كانت مليئة بالعطاء العلمي والروحي والمادي الذي عز نظيره.

ضاع جُل تراث الشيخ عبد القادر - بكل أسف- مع ضياع مكتبة أسرته في الحريق المَهُول الذي أصابها، وبضياعها ضاع كنز معرفي عظيم وضاعت معه تجربة إنسانية فريدة.. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

ترك الشيخ بالإضافة إلى أبنائه الثلاثة المذكورين أعلاه ثلاث بنات هن:

- سلمى (أم عبد الله الملقب دحمود ومحمد ابنا المختار بن الرباني بن أحمد بن صالح) 

- مريم (أم فاطمة السالمة بنت أحمدو بن أحمد بن لعبيد) 

- ميمونة (أم اخويدّاج بنت أحمد رمظان)

أمُّ الجميع زليخه بنت محمدن (امّدن) بن محمود بن بليه ما عدا سلمى فإن أمها فاطمة بنت محمد حبيب الله بن الرباني بن أحمد.

 

رحم الله الشيخ برحمته الواسعة وبارك في آل بيته الطيبين.