أعلام ظلمهم المؤرخون.. العلامة محمد الدنبجه بن مَنِّي (الحلقة 10)

محمد الدنبجه بن مَنِّي التندغي الحلي (ت. 1270 هـ):

هو محمد الدنبجه ومعنى الدنبجه يحي بن محمذن الملقب مَنِّي بن المصطفى الملقب بَبّا بن أشفغ الدنبجه المعروف بصاحب (لن تنالوا...) علمًا، التندغي الحلي، أمه هي فالَه بنت محمدي بن أحمد بن خَيّار بن القاظي العلوية. 

إنها سلسلة ذهبية متفردة جمع أفرادها بين العلم والصلاح والإصلاح والسيادة والريادة والإنفاق ومحاسن الأخلاق، مثلت على مرّ التاريخ ذؤابة المجد والسؤدد في هذا الحي من حلة الأربعين جوادا التندغية...

ولد محمد الدنبجه رحمه الله على الأرجح في السنوات الأولى من القرن الثالث عشر الهجري في مرابع قومه في النواحي الشرقية من إمارة الترارزه وتحديدا في شعاع دائرة ضيقة مركزها بئر ذات النمل "انتوطفين"، حيث كان الحي من آل أشفغ الدنبجه يُعرِّس غالب الزمن وفي كل فصول السنة.

هناك وفي تلك المرابع الجميلة من أرض آمشتيل بكثبانها الذهبية الناعمة وتلالها الشاهقة التي تطاول عنان السماء، وسهولها الممرعة الممتدة مد البصر، هناك حيث أنيطت علي -ذات شتاء بارد- تمائمي، وهناك أديم أول أرض مس جلدي ترابها... 

هناك كانت محاظر القوم، وهناك ذات ناشئةِ ليلٍ وقرآن فجرٍ حرّكت الآية الكريمة {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}، الشيخَ أشفغ الدنبجه –والسيفْ الِّ هند الريحْ اتْسنّو- فجاد عن طيب نفس بأحب ماله إليه وأكرمه عليه عند كل "أغَبّادٍ أوأوَخّاظْ" يرتله طفل من أطفال المحظرة، حتى خشيت قعيدة البيت أمنا خديجه رحمها الله نفاد مال زوجها وكان مُوسرا مَليًّا... فكان كما وصفه أحد أفنان دوحته الظليلة وهو الشيخ محمد أحمد بن الرباني (1266 - 1353 هـ):

بِـ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ...} بالأسحارِ -- فاقَ جميعَ ساكنِي الصحارِي...

هنا نشأ السادة القادة أبناء الشيخ أشفغ الدنبجه وأحفاده، وإلى هذه الرُّبى الطيبة - مع رب غفور- عاد ذات رحلة أبناء المصطفى بن أشفغ الدنبجه بعد رحلتهم الشهيرة إلى الشمال، تلك الرحلة التي قابلوا خلالها الإمام الحافظ الشيخ سيد أحمد السجلماسي (1090 - 1156 هـ) وحملوا في طريقهم من هناك مكتبة عظيمة ضمت بعض نفائس الكتب التي قيل إنها دخلت هذه الربوع على أيديهم لأول مرة، مثل: "تحرير الكلام في مسائل الالتزام" و "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل” لمؤلفهما شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي، المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي (ت. ٩٥٤هـ).

في هذا المحيط الصاخب بالاشتغال بالعلم، تعلما وتعليما وعملا، والمُفعم بقيم الرِّفعة واطِّلاب المعالي، والمُضمَّخ بأكاليل المجد والسيادة، نشأ وترعرع وقَرأ وأقْرأ وأقْرى وأفْتى وأرْشد وقاد محمد الدنبجه قومَه بالحكمة والعدل واحتمال الكَلِّ والعون على نوائب الحق، على منهج سلفه الصالح، فكان في قومه مسموع الكلمة، محمود النقيبة، نافذ الراي... معظّم القدر ومهاب الجانب عند عامة سكان المنطقة وخاصتهم من عرب وزوايا وغيرهم من مكونات وفئات المجتمع الأخرى. 

الحِلم والأَناةُ خَصلتانِ يحبُّهُما اللَّهُ ورسوله -كما في حديث أشجِّ عبد القيس- اتصف بهما محمد الدنبجه إلى جانب مآثره وخلاله الأخرى الكثيرة... ومن حِلمه ما يُروى من أن رجلا ضرب ولده الأوحد المصطفى على أم رأسه، فلما بلغه الأمر، قال: عسى أن لا تكون يد المعتدي تأذت من رأس الولد، فإن رأسه قوي شديد الصلابة...! ومن كياسته وكثرة إنفاقه ما يُروى من أن قطيعا من الإبل يملكه تعرض لنهب من قبل بعض اللصوص، فلما أخبره الراعي الخبر أطرق مليا وكأنّ سحابة حزن عابرة غطت قسمات وجهه، فعرف الإنكار في وجوه بعض أهل بيته، فقال: والله ما حزنت على ضياع الإبل أبدا، فما فيها ناقة تبِضّ برسل إلا وقد نفع الله بها مسلما محتاجا إلا واحدة -وسماها باسمها- ضاعت قبل أن تسد خلة مسلم وهذا ما أحزنني، فقال له الراعي: تلك الناقة حلبتها أنا يوم كذا لعابر سبيل وجدناه في الخلاء وقد بلغ منه الجوع والعطش مبلغا كاد يورده موارد الهلاك، فسري عن الشيخ وتهلل وجهه فرحا ولهج بحمد الله وشكره والثناء عليه... وللأمانة فإن القصة تُعزى أحيانا للمصطفى الابن، وفي كل الأحوال فهما من مشكاة واحدة... والعلم عند الله.

  

يقول فتى فتيان زمانه محمدو بن محمدي العلوي (ت. 1272 هـ) في محمد الدنبجه:

أغرى بمقلتك التسهيدَ و الأرقا

طيف بُعيْد هُدوّ الركب قد طرقا

 

طيف تأوب من أسماء بت له

ليلي سميرَ الدّراري أرقب الفلقا

...

 

قد طالما علقت نفسي بها وأرى

محمدا بالمعالي طالما علقا

 

سعى ليَكسبها ليس المقصر لا

ليكسب العَرضَ والصفراء والورِقا

 

سعى إليها بجد واشتداد هوًى

وهمة تزدري أن تبلغ الأفقا

 

فسابقته ذوُوها نحوها وغدا

بقبضه السبق مخصوصا بما سبقا

 

قد زان بهجته والحال شاهدة

زهد وحلم وعلم نافع وتقى

 

كم آب ذا ظفَر منه ببغيته

من يطلبُ العلم أو من يخبطُ الورقا

 

هذا جهول غدا من عز حكمته

جم العلوم وذا مسترزق رزقا

 

حاز السكينة في حال السكوت وفي

حال الكلام حلالُ السحر ما نطقا... إلى آخرها.

 

أقام الشيخ – والشين هنا مفتوحة ومكسورة- محمد الدنبجه من الصلات ونسج من العلاقات والروابط ما تقتضيه مكانته وتتطلبه أدواره كعالم دين وشيخ عشيرة ومرجعية اجتماعية وازنة. 

بعد عمر حافل بطاعة الله وخدمة عباده توفي الشيخ وهو على جناح سفر في منطقة "اكليبات لفهوده" بين إينشيري وتازيازت، ودفن هناك رحمة الله ورضوانه عليه عام 1270 هـ عن عمر ناهز السبعين سنة، وفي ذلك يقول العلامة أحمدو بن البخاري (ت. 1276 هـ):

نَعيتَ لي بالسيد المُطيــــعِ 

                         مُعَيّنا أتى على الجميع

قضى بـ"شرعٍ" نحبه فكانا 

                           تاريخه لموته عنوانـا

 

يشير بـ "شرعٍ" إلى تاريخ الوفاة بحساب الحروف.

 

وقد رثاه ابن محمدي العلوي بقصيدتين، يقول من إحداهما:

بكى لو شفى طول البكا غُلة الصدر

لمستهتر طاوي الحوايا على جمر

 

فشا ما فشا مما دعا الحزن فانبرى

يلبي وولى عنده حسن الصبر

 

إلى أن يقول:

فتى ملك الأعناق بالحلم والندى

وعز التقى لا بالتجبر والقهر

 

تصدى لأشتات المحامد ناشئا

فساسَ وما أربت سنوه على العشر

 

فما الطود إلا دون راسخ حلمه

وما الغيث إلا دون نائله الغمر...

 

ويقول في الثانية:

 

لا عذر للقلب أن يقن السلو ولا

للعين أن تبق في آماقها بللا

إن النعي بفيه الترب فاه بما

أسهى وأسهر من تبريحه المُقلا

رمى القلوب بما لو كان صادفه

رضوى ولبنان دهدى منهما القُلَلا

ألقى على بيضة الإسلام كلكله

ما لو تجسّمَ هدّ السهل والجبلا

خطبٌ تنكرت الدنيا به وبه

قد ألبست بعد ملبوس الحلى عطلا

ناهيك مما دهى من حادث جلل

فدان من كان يكفي الحادث الجللا

نعى محمدنا الناعي فقلت له

هلا عطفت عليه العلم والعملا

حبر تواضع للمولى فصار له

به على كل من رام العُلُوّ عُلا

ساس الأنام بسلطان التقى فله

قد أصبحت خولا منه ذو والخيّلا

من عاش للناس أمّا طالما حضَنَت

أبناءها وأميرا طالما عدلا

من سالم الخلق لا حقدا ولا حسدا

ولا ملاحاة منه لا ولا جدلا

أربى حياء على العذراء مرسلةً

من خدرها حولها الاستار والكللا

قد عود الطرف إطراقا كأن به

على جمال المحيا والعلى خجلا

ما جاد لا الزمن الماضي بمشبهه

فلا على الزمن الآتي إذا بخلا

يا هالكا وقسِيّ الموت ما برحت

ترمي وأغراض رامي نبلها النبلا

ان تخترمك قنى أم اللهيم فكم

نفست معضلها المرهوب إن نزلا

أو سرت عن هذه الدنيا الغداة لقد

سارت مزاياك في أقطارها مثلا

أو صار مثواك في بطن الثرى فلكم

زاحمت في برجه المرّيخ أو زحلا

نفاد زادك من دنياك زوّدنا

حزنا وإن كنت مسرورا به جذلا

ووَردُك الموت روّانا الزعاق وإن

روّاك موردهُ الصهباء والعسلا

يأبى سلوك أنا كلما عرضت

غرّاءُ تذكرنا أيّامك الأولا

يأبى سلوّك حسن القول منك إذا

أهل المساجد خاضوا اللهو الهزلا

تأبى مواعظ لا تنفك تبعثها

تحيي القلوب وتؤتي الذكر من غفلا

لهفي عليك إذا نادى العشيرة عن

ما نابه لزم التسويف والكسلا

لهفي عليك إذا ما الغيث أخلفنا

لهفي إذا ما شهاب الفتنة اشتعلا

لهفي إذا انتهب الاموال منتهب

في حالة تبعث الأعذار والعللا

قد عشت فينا فلا عيش يمَلّ ولا

سيف يسل ولا نفس تضل ولا

حتى انقضى الاجل الموقوت وا أسفى

والمرءُ ليس يُراخي فضله الأجلا

فلم تدع فوق ظهر الأرض من بشر

إلا وأودعت في احشائه خبلا

لو كنت تُفدى بمبذول لأرخص ما

من النفائس والأنفاس فيك غلا

ولو حمتك سيوف الهند لاخترطت

منّا الأكُفّ سيوفاً تسبق العذلا

يا أربعين جواداً إن حسبكم

لطف المهيمن فلترضوا بما فعلا

ولتذكروا الرزء -لا ضاعت أجوركم-

بخاتم الرسل تنسوا خاتم الفُضلا

فالموت ماء علينا حقّ موردهُ

من دونه عبّدت اسلافنا السُّبلا

والحمد للّه في باقي أرومتِه

من ليس يعمل إلا مثل ما عملا

إنا نرى المصطفى واللّه ذو كرم

منه بما قد حوى من نعته بدلا

نال الزيادة والحسنى وصادف ما

أسداه من صالح العمال قد قبلا

يا رب واجعله من أمسى بمدخله

للقبر في جنة الفردوس قد دخلا

وأولِ عائشَ أمّ المؤمنين قِرَى

ضيفٍ بباب كريم موسر نزلا

ورقِّها لجوار الشيخ إن لها

حبلا متينا بحبل الشيخ متصلا

وجازها عن يتامى المسلمين وعن

ما وافقت منتهى آماله الأملا

يا نعمها امرأة لم يحكها رجل

فضلا ونعم أخوها المرتضى رجلا

شمس وبدر اضاءا الافق في قرن

حتى إذا استكملا ما استكملا أفلا

 

وعائشة المذكورة هي شقيقة الشيخ وكانت وفاتهما فيما يبدو متزامنة، سحت على جدثيهما شآبيب رحمة الله ورضوانه وبارك في آل بيتهما وعترتهما الطيبة.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

ثلاثاء, 02/04/2024 - 02:17