أعلام في الذاكرة.. العلامة الأديب موناك بن المصطفى بن مبرك (الحلقة 13)

العلامة الأديب موناك بن المصطفى بن مبرك (1281-1358) هـ/(1864-1939) م:

هو العلامة المتقن والشاعر الخنذيذ: مبركٌ الملقب موناكْ بن المصطفى بن مبرك بن عبد الرحمن بن محمود بن أشفغ نحوي، التندغى، الحلي، وأمه ميمونة بنت أحمدو فال، شقيقة العلامة المرابط محمذن فال بن أحمدو فال، ويلتقي والداه عند الدنبجه الأكبر بن الجد الجامع عبد الله بن اكرَ.

 ولد على الأرجح في مرابع قومه في الشريط الممتد ما بين آمشتيل شمالا، مرورا بآفطوط وآورطيل والتشمماتن وحتى ميْ ميْ من أرض شمامه في أقصى الجنوب، وذلك في حدود سنة 1281 هـ، الموافق لسنة 1864 م، في بيت دعائمه علم ونخوة وعز وسيادة وكرم وإقدام مسلسل من الأب إلى أبيه إلى أبعد جد، ويكفي أن نتذكر –على سبيل المثال- أن الفقيه أشفغ نحوي بن سيدي أحد الرواد المؤسسين لمحاظر الحلة، وابنه محمود كان إمام قومه مدة أربعين سنة، أما المصطفى فقد كان مشهورا بالبذل والإنفاق مما آتاه الله، وقد وظّف ما بسط الله له فيه من ثروة طائلة في الإنفاق بشكل خاص على محاظر قومه والتكفل باحتياجات طلابها.

أخذ القرآن الكريم ومبادئ علوم الفقه والنحو واللغة والسيرة النبوية في بدايات مساره التعليمي عن والدته العالمة الشيخة ميمونة بنت أحمدو فال، التي كانت لها محضرة كبيرة ومورودة تفيأ ظلالها الكثير من الطلاب الذين نالوا حظا معتبرا من المعارف. لم يكن الحفظ أول الأمر -فيما رُوى- سهلا على الطفل، بل قيل إنه كان يجد مشقة كبيرة في استظهار دروسه، إلى أن فتح الله عليه وأصبح يحفظ بأقل جهد ومن أول محاولة... ولما اشتد عود الفتى وبلغ مرحلة التخصص واحتاج التعمّق في دراسته، تحول إلى محظرة خاله، وحيد دهره العلامة محمذن فال بن أحمدو فال (ت. 1345 هـ)، الذي وجد عنده مبتغاه وغاية مناه ونال من علمه وعمله وحلمه وأخلاقه وتربيته الصوفية ما شفى غليله وروّى ظمأه، لكن غريزة طالب العلم الذي لا يُشبِع نهمه شيء قذفت سفينة الشيخ موناك إلى مرافئ محظرة الكحلاء والصفراء في لبراكنه، فأخذ عن شيخها الفقيه المتمكن محمد عبد الله بن محمد محمود بن حَيْبَللَّ بن القاظي الإجيجبي، وبعد أن أتقن المعارف الفقهية هناك، سافر إلى محاظر صانكرافه حيث مكث هناك عامًا يعمق دراساته في علوم القرآن.

بعد هذه السياحة العلمية المظفرة، عاد الشيخ موناك إلى مرابع قومه وجلس للتدريس والإفتاء والتوجيه، واشتغل خصوصا بشؤون قومه العامة، فكان يسير معهم إلى المحافل وينافح عنهم في النزاعات ويمثلهم في المناظرات... ثم إن الشيخ موناك كرّس آخر عمره للتوجيه والإرشاد وتربية المريدين، وكان له اهتمام كبير بالجوانب الروحانية والتربوية، وقد فتح الله عليه في تعبير الرؤى فكان يؤلها فيأتي تعبيرها صادقا في غالب الأحوال كفلق الصبح...

وعلى هذا المنوال ظل موناك إلى أن اختاره الله إلى جواره ذات رحلة امتيار عام 1358 هـ/ 1939 م في منطقة شمامة غرب مدينة بوكي، حيث وُوري الثرى في إحدى أشهر مدافن قومه وهي مقبرة مَيْ مَيْ. 

لقد أخذ عن الشيخ موناك كثير من طلاب العلم، سواء كان ذلك في محظرة خاله لمرابط أو كان بعد أن استقل بالتدريس، ومن أشهر من درس عليه واستفاد منه خلال المرحلتين:

- أبناء خاله لمرابط بن أحمدو فال

- القاضي محمد يحي بن محمد الدنبجه

- المصطفى محمدو بن محمذن فال بن المصطفى بن مبرك.

 

ترك الشيخ موناك العديد من الأنظام العلمية، منها: 

- نظم في حكم الجماعة، 

- نظم في حكم مُلكِ مَواتِ الأرض، 

- نظم في حكم الرضاع،

- ديوان شعر مرقون، جمعه وحققه الأستاذ النائب محمدٌن بن محمد الحافظ بن أحمدو فال، في رسالة تخرج من المدرسة العليا للأساتذة – نواكشوط سنة 1981.

كان موناك الشاعر أحد أبرز أوجه حياة الشيخ موناك، ولعله طغى في كثير من الأحيان على بقية جوانب حياته لعلو كعبه في قرض الشعر ووفرة إنتاجه وتعدد أغراضه، مدحا وغزلا ورثاء وفخرا ومساجلات وإخوانيات وحكمة وتوجيها وإرشادا ووعظا... وسنستعرض هنا نماذج مما تيسر من إنتاجه في هذه العجالة.

يقول في رسالة إلى العلامة الشيخ سيديّ (باب) بن الشيخ سيد محمد بن الشيخ سيديّ (ت. 1342 هـ)، والظاهر أنها متعلقة بنزاعٍ، قومُ الشاعر أحدُ أطرافه، والشيخ بابَ هو المحكَّم بين الطرفين: 

أبوارق بالشّيم لاحت أنْوُر

فوق اليفاع تبينت أم جوهر

أم بدر تمٍّ أم غزالة أسفرت 

 أم مسك أذفر ضائع أم عنبر

أم قرقف من خمر بُصرَى صانها 

كيما يفوز بها زمانا قيصر

أم وعد صدق من سليمى بعدما 

صرمت حبالك أم ترنم مزهر

بل ذي جنتها الخمس من قبل الورى

 الشيخ سيديّ قد أتى فلتحضروا

دُهش الأنامُ من السرور وأظهروا

 ما أظهروه وأضمروا ما أضمروا

واستبشرت كلُّ النفوس وأبصرت 

كل العيون لوَ انَّها لا تنظر

إن الترحب في عظيم جنابكم

 لغو فيُزجر من أتاه ويُعذر

فإذا المكارم عددت أربابها 

فلمن تلاك من الأنام الخنصر

فلأنت أدرى بالمكارم منهم

 للنّيب أنحر بالنوائب أبصر

بالمال أسمح في الشدائد والرخا

 للجار أخفر للمناكر أنكر

بالعلم أعلم بالمعارف عارف

بالخُبر أخبرُ بالخُفارة أشهر

وشمالكمْ تعلو يمينهمُ كما 

أبواعهمْ عن أُصبع لك تقصر

لم يبلغوا إحدى خطاك بعدوهمْ 

ولوَ انهم ركضوا الجياد وأحضروا

من قاس كفك بالسماح بحاتم 

أو بِابن مامة إنه لمقصر

أنَّى يقاس على السُّها قمر الدُّجى

أم هل تُقاس على النّطاف الأبحر

فالندب عندك في الشريعة واجب

والكره عندك في الشريعة يحظر

وإذا العُداة تأهبوا وتحزبوا

وعن السواعد للكريهة شمّروا

أعملتم في جمعهم ونحورهم

رأيا يقصر عن مداه العسكر

فتركتهمْ جَزَرَ السباع وأدبروا

من بعد ما قد دبَّروا ما دبَّروا

هذي محامد فيكم مرئية

مع أنها عن والديكم تُذكر

لو كان أجدر منهما بجماعها

وكمالها لحلفتُ أنك أجدر

فمؤخر قدمتموه مقدمٌ

ومقدمٌ أخرتموه مؤخر

لا مفخر بين الورى إلا بكمْ

فلنا بكم بين الأنام المَفخر

فلنا الفَخار على الزوايا كلهم

ينمى إلينا والزوايا حضّر

لم ينكروا المجدَ الأصيل وعندنا

كل الأدلة والشهود لوَ أنكروا

إن كان بالعلم الفَخار فإننا

علماؤنا كلَّ الشريعة حرروا

أو كان في بذل العطا فأكفنا

أبدا على كل الخلائق تمطر

أو كان بالعدد الكبير فنحن مِن

كل القبائل والعمائم أكثر

أو كان في غُررِ الزمان فهذه

غرر يعز وجودها أو يندر

فالشيخ منا بل أبوه وجده

منا ومنا العامري بُبكر

ملكوا البلاد لنا فسرنا نحن في

آثارهم وظلالهم نتبختر

وإذا العُداة سعوا لنيل تهضم

وتعمموا بمحاشهم وتأزروا

وأريتهم حلمي وتنشد حالتي

والحق من صدق المقالة يظهر:

(هذا ابن عمي في دمشق خليفة)

قد خاب سعيهم إذن لو فكروا

حلوا عقودك إذ أبينا حلها 

وأخو العناء له العناء مبشّر

وإذا الدقيق هوى شذرٍ مَذرْ

ردّ الدّقيق لحاله لا يقدر

فالمقتفي لمقالكم متحصن

والمكتفي بخلاف ذلك أبتر

لا زال حفْظُكم الإله ونصْرُكم

والله يحفظ من يشاء ويَنصر

ونعالكم تعلو اليوافخ والذّرى

ونقادكم ربدَ الضراغم تُذعر

وفلوسكم تعلو النضار وليلكم

يعلو النهار وطفلكم لا يكبر

بأخي الشفاعة والدفاع عنَ آله

وجواره في آله لا يخفر

فله انتهاء رجائنا وتمامه

وختامها وله الكمال الأوفر

ثم الصلاة مع السلام عليه ما

علت الحقيقة واضمحل المنكر.

 

وله من قصيدة في مدح الشيخ إبراهيم بن الحاج عبد الله انياس (ت. 1395 هـ) 

مطلعها:

بعهود هند قد نأى سكانها

 تذري الدموع زمانها ومكانها

فبه الشريعة قد تمكن صيتها

وبه الحقيقة قد سما بنيانها

كلتاهما لولاه أقفر رسمها

بين الورى وتدكدكت أركانها... إلخ

 

وله في الفخر بقومه، وقد قالها ذات سفر سمع فيه أحد الشعراء ينشد قصيدة يتغنى فيها بأمجاد قومه، فقال موناك:

إن بالقاع أربعا لنوار 

أنكر الهيف رسمها والسواري 

فوجدنا بخالدات الأثافي

بيّنات وباقيات الأوار 

فالربوع التي لها بحوالي

فرْجلاتٍ فمربعيْ ذي الحمار 

فالربوع التي لها بالضواحي

فالربوع التي لدى ذي القرار 

خيم المزن حولها وسقى ما

قد حواها من أنجد وتيار 

دهرها سيد الدهور بأهل

خير أهل ودارها خير دار 

يالها من معاهد مثمرات

بالتقى والعفاف خير ثمار 

وغرسنا بها العلوم عقارا

والمعالي وذان خير عقار 

وبنينا من الثناء قصورا

ووكفنا من العطا ببحار 

يعلم الله أننا لكرام

وخيار من خيرة من خيار 

أكرم الميتِ ميتُنا، خير حي

حيّنا ذا ونارنا خير نار 

يُكرم الضيف في المحول لدينا

والزلال النمير قوت العذار 

ذمّنا من يقيسنا بالزوايا

ليس سوم الفلوس سوم النضار 

طفلنا بين شيبهم لا يبارى

يُتقى من بلاغة ووقار 

حيثما يجهل الزمان وتُخفي

كوكبَ الشمس ساطعات الغبار 

وتلاحى أهل العقول وقالوا

مالكم في بلادكم من قرار 

بادِروا بالفرار ليس قرار

بعد هذا، فبادَروا بالفرار 

نبتني المجد بابتناء خيام

في يفاع يؤمنا كل سار

من ضعيف وعاجز وفقير

قد بقوا بعد قومهم في القفار 

ولصوص غياشم وطيور

جائعات وأسد غاب ضوار

نسع الكل ميرة وأمانا

نطلب المجد بالثنا ونداري 

فترى الطير والسباع بطانا

من سوام لنا وذات ادخار 

إذ غدوا جارنا ونحن أناس

لا نرى المجد غير حفظ الجوار 

ولنا في العلوم أيدٍ طوالٍ

من قديم يؤمنا كل سار 

من أصول وسنة وكتاب

والموطا ومسلم والبخاري 

فقديم العلوم طرا لدينا

والعلوم المستنبطات الطواري 

وتمنى قريضنا البيضُ حُليا

يبهر الدر بهجة والدراري 

واكتسينا من الثناء برودا

رب قوم من الثناء عوار

صيتنا ذاع في البلاد جميعا

عند أهل القرى وأهل الصحاري 

حلمنا بالجبال يُزري ويُزري

ساعة البذل جودُنا بالبحار 

فاسأل الوفد إن ألمّ بليل

واسأل الوفد إن أتى بالنهار 

ومتى تسأل الحسود الذي نحْـ 

نُ في عينه كالقذى والعوار

يقل: القوم أربعون جوادا

ويواري من جودنا ما يواري

هكذا نهج سالفينا وقامت

تقتفي نهج سالفينا الذراري 

وإذا ما الكرام سادوا فمنا

ما لديهم من العلا والفخار 

بغريب يحلهم ثم يمسي

ثاويا فيهم بذات خمار 

كل ذا ظاهر لكل أريب

عارف بالعلا كريم النجار 

واللئيم الحسود يشجيه كالجُعْـ

لان حتف لها شميم الصواري 

والسلامان دائمان على من

خُص بالختم من خيار نزار 

وعلى الآل والصحاب الأولى را

موا المعالي بهجرة وانتصار.

 

وله في الغزل:

ألا كرر حديثك يا خليلُ

لقد طرب الفؤاد لما تقول

ومن يقصصْ علي مجيء سلمى

فإني بالجزاء له كفيل

فتاة لا ترد لنا جوابا

وإن تنطق فمنطقها قليل

فملّكها الجليل زمام قلبي

وما فعل الجليل هو الجميل

 

ويقول في التوجيه والحث على التعلم، ولعله هنا يرد على عاذليه إثر تغربه عن أهله طلبا للعلم:

سلام كعرف الروض غِب الهواطل

ألذ من التعليم في قلب جاهل

مدى الدهر مادام التعلم واجبا

وطالبه لم يخشَ عذل العواذل

ومادام أبناء الزوايا لأجله

يطوفون أفواجا بكل القبائل

وبعد ففرض العين من كان جاهلا

له لم يفد فيه مجيء الرسائل

ولم يتنقل خوفَ جوع وعريه

ولم تقتنصه قانصات الحبائل

فإن نال فرض العين آب لأهله

وإلا ففرض الموت أول ناقل

 

ويقول في الحث على تحمل نوائب الدهر (تشتهر هذه الأبيات على ألسنة قوم الشاعر، وكأنها جزء من منظومتهم القيمية):

البخلَ جنب إنه البلوى وإن

غلبتك نفسك فابخلن أن تبخلا

وإذا النوائب قسّمتها أهلها

لا ترض قِلا بينهم أن تحملا

إن النوائب حملها يُلفى على

حسب المُروءة لا على حسب الملا

والمرء أحوج دهره لمروءة

أيام قلة ماله بين الملا

فاحمل منابك واتّكل فيه على

من هو كاف من عليه توكلا

 

ويقول لما اشتدت عليه وطأة الغربة في المحظرة:

ألِمةُ إن غدوتِ اليوم شعثى

وأوعدك المقارض بالمصال

فكم حسناء آنسة عروب

مفصمة الدمالج والحِجال

مناها لو فلتك وبنت عم

تصون لك الدِّهان وبنت خال

وكم لك بالمُقيم وجلهتيه

من البيض الدواهن والفوالي

فصبرا للزمان فكل قرم

سيركب ما تنيخ له الليالي.

 

جمعت الشاعر موناك مساجلات وإخوانيات ومراسلات كثيرة مع بعض أقرانه وأصدقائه أيام الدراسة وبعدها، ومن أشهرها مساجلاته مع ابن عمه الشيخ أحمدو بن الشيخ محمدو بن حبيب الرحمن (ت. 1375 هـ) ومع صديقيه محمد بن الطلبه وبومن بن محمد عالي، يقول في رد على أبيات للشيخ أحمدو:

ألا فحي ديار الحي باللجج -- للخل أحمدُو، واذهب بينهن وجي

واسكب دموع شجيٍّ في مرابعها

طرّا وإن كنت بالديار غير شجي

جراء ما قال في "اصنيبا"، وكونهما

ليسا بكفؤين ما في ذاك من حرج.

 

وكان الشيخ أحمدو قد قال مداعبا صديقه موناك:

يا أرْبُع "اصنيبَ" إني وسط مغناكِ

ما بت قطّ ولم أُسعف بجدواكِ

لكنني يا ديار "اصنيب" من أدب

أُثني عليك ابتغا مرضاة موناك.

 

و يقول ابن محمد عالي في مطلع قصيدة يخاطب بها موناك:

سعد السعود ببرجنا قد لاحا

ونسيم نافح طيبنا قد ماحا...

 

ويجيبه موناك بقصيدة منها:

أَأَغنّ منظوم التمائم لاحا

فسبى الأنام جحاجحا وملاحا!

أم خانُ سلك جواهر منظومة

لا تستطيع بها النفوس سماحا

أم بنت فكرِ أخي البلاغة أسفرت

فحسبتها قبل الصباح صباحا

وحسبت أبكار الحسان عجائزا

منها وخِلت حسانهن قِباحا...

إلى آخرها.

 

تغمد الله الشيخ موناك برحمته الواسعة وأسكنه الفردوس الأعلى من جنته وبارك في آل بيته وجميع عترته.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

جمعة, 05/04/2024 - 01:19