بدأت الحكومة في الفترة الأخيرة الاهتمام بنواكشوط، كل نواكشوط، بعد أن حصرت اهتمامها لمدة عقود في جزء مخملي من المدينة التي شابت قبل فتوتها.. وقُسمت إلى 15% صالحة لكل شيء و85% لا تصلح لشيء.. فقفزت أسعار القطع الأرضية فجأة في تفرغ زينة ولكصر إلى مئات آلاف الدولار في بلد لا يتجاوز ناتجه القومي الإجمالي (كل ما في البر والبحر) ثمانية مليارات دولار.. وفي دولة متوسط الراتب فيها 300 دولار.. في حين لا تتجاوز متوسط أسعار القطع في المناطق الأخرى 5 آلاف دولار!
لقد كانت هذه الوضعية شغلا شاغلا لثلاث فئات هي: الأمن، والطبقة الوسطى، وبعض رجالات الدولة.
فالأمنيون كانوا ينظرون إلى نذر طبَقية تتشكل على مدى السنين، بين أغلبية تفتقر لأقل ضروري وبين أقلية تتحكم في كل شيء ويتضخم لديها بند الرفاهية في ميزانيتها، منها الوزراء ورجال الأعمال والنافذون.. وازدادت في الفترة الأخيرة بفئة أكثر خطورة وأسرع نموا: المنحروفون وذوو القدوة الفاسدة! والذي يعبرون بصراحة أكثر عن "الطائفية" الجديدة.. واختلقوا منهجا يصف الـ85% من سكان العاصمة بـ"ما وراء مدريد"، ويشجعون على التسرب المدرسي، ويقللون من قيمة انتهاج أسلوب التكوين الطبيعي.. فبدلاً من 12 سنة تحصيل، ومرحلة جامعية مرهقة.. يكفي أن تقتني هاتفك النقال وتدوس بإبهامك على كل محظور مجتمعي، لتلج إلى بوابة الثراء السريع وتنضم إلى فئة الـ15%.
يسجل الأمن أن نسبة تفوق 95% من جرائم المدينة ونسبة 70% من تكسي تودوروا ونسبة 100% من العمالة موجودة في حيز الـ85%.. وهذا يولد الشعور بالغبن والاضطهاد، وهو غير مأمون العواقب، لا سيما أن الطبقة الوسطى بدا أنها تطارد ظلها.. فكلما قالت سأعمل أكثل لأحصل على امتياز الـ15% تكتشف أن سعر القطعة أو السيارة التي كانت تحلم بها قفز أثناء خطتها إلى الضعف!
وقد أدت هذه الحالة المأساوية من غياب العدالة وحياد الدولة إلى اختفاء الطبقة الوسطى، فالمجتمع لم يعد يقبل بوجودها، إما أن تكون في الـ15 أو في الـ85%، لا خيار ثالثا لك.. ويلاحظ الباحثون هجرات جماعية من ميسورين كانوا في عرفات وتنسويلم إلى منطقة الـ15%، ليثبتوا للعالم أن انتماءهم هناك، وليس في الـ85% الجرباء، ففقدت تلك المناطق بذلك أيضا مُعينا قادرا كان يواسي أحيانا ويدفع لفقير أمام عينيه.. وهذا ما دفع عشرات الآلاف من شبابنا إلى خوض عباب المحيط في رحلة كولومبوسية، صاحبها مطلوب أكثر مما هو طالب، كما أني أعرف أشخاصا باعو ما يملكون واشتروا شققا لعائلاتهم في تركيا وفرنسا وإسبانيا والمغرب، بثلث ما يشترون به قطعة مقفرة يسوسها الملح في الجانب الغربي من المدينة، مفضّلين الوصم بالفقر على صيت الغنى الزائف.. بينما دفع عجز فريق ثالث من الأغلبية المطحونة إلى التمسح على أبواب الـ15%، مستخدمين مهاراتهم في التحبب وتزويق الباطل وترويج المنتجات الكمالية، وتحويل أنفسهم معول هدم للمنحرفين في المجتمع..
يدرك رجالات قلائل في الدولة أن هذه الوضعية لن تستطيع الاستمرار في هذا المجتمع الهش.. وأن قرارات، حتى لا أقول تنازلات صعبة، يجب أن يتم اتخاذها بسرعة حتى لا يتفتت المجتمع بين أغلبية لا تملك شيئا، وأقلية لا ينقصها شيء.. ولو كانت تلك الأقلية حصلت على ما لديها بشطارتها وعلمها وتجارتها واستثماراتها - النزيهة - لما كان من حق أحد أن يتفطن للأمر ولا أن يركز عليه فهو على كل رزق من الله بسبب معروف وطريق حلال.. لكن رجال الدولة يدركون أن تلك الثروة الهائلة إنما تكوّمت من عمليات فساد مُنتنة وصفقات تراض فاضحة ولوبيات توازن داخل صناع القرار..
ولعل الرئيس الحالي الصبور، ووزيره الأول المتعلم الصارم، هم أفضل من يستطيع وضع أسس تغيير جديد للمدينة التي تعد قلب وكبد البلد، وإذا فسدت لا قدر الله، فلا يُتوقع صلاح لأي مكان آخر فيه..
إن تطوير نواكشوط يجب أن يأخذ مناحي عدة تتجاوز طلاء الأرصفة وبناء محطات انتظار للحافلات..
نواكشوط يحتاج إلى مدارس في مناطق "ما وراء مدريد"، وإلى تأمين الخدمات الأساسية؛ الماء والكهرباء والأمن.. ومن الأفضل أن تنقل الحكومة بعض المجمعات الوزارية إلى مناطق غير تفرغ زينة ولكصر.. وتبني مستشفيات. غير وهمية، وفنادق، لن ينقطع عنها الكهرباء، إضافة إلى أسواق عصرية وحدائق ومتنزهات.. لعلها تستنقذ شبابا في مقتبل اليأس تتناوشهم أفكار مسلسلات الأكشن والتمثيليات المنحرفة التي تعرض على قنواتنا دون رقيب، ومشاهدة الواقع الذي يخير الشاب بين موت الحياة وحياة الموت.. كما يجب وضع برامج تمييز إيجابي لمجتمع 85%، عبر المسابقات الوظيفية والقروض البنكية والتمويلات المتابَعة..
إن تطوير نواكشوط قضية أمنية ووحدوية أكثر مما هي عملية تنموية، فإذا كان لا يزال في هذا الحيل بقية أخلاق اجتماعية وشيء من التقوى على لغة نزار، فإن جيل ما بعد 2035 لن بكون بمستواه ولن تكون لديه نفس الدوافع للتعايش بين قاع يرى أنه مغبون وقمة تنظر إلى الجميع على أنه حثالة!
فاللهَ اللهَ في أبنائكم وأحفادكم!!