النول الفلسطيني: 5 آلاف عام من الفن في مواجهة الاندثار

حرفة النول من أقدم الصناعات التقليدية في فلسطين، إذ يعود تاريخها إلى أكثر من خمسة آلاف عام. ورغم قدمها، تواجه الحرفة خطر الاندثار، ولا سيما في قطاع غزة، حيث لم يتبقَّ سوى عدد محدود من المشاغل التي تحافظ على هذه المهنة وسط ظروف صعبة، أبرزها مشغل "المجدلاوي" الذي اضطر صاحبه إلى مغادرة غزة إلى مصر، بالإضافة إلى مشاغل "الصوّاف" و"السلك" و"الحاج حسن عطا الله" و"اليازجي". وتمثل هذه الحرفة جزءاً من التراث الفلسطيني، إذ تُنسج البُسُط بزخارف توارثها الحرفيون جيلاً بعد جيل، مستخدمين تقنيات لم تتغير عبر الزمن.

تاريخ آلة النول
تعود تسمية الحرفة إلى آلة النول اليدوية، وهي أداة خشبية يُغزل عليها النسيج بعد غسل الصوف وصبغه. يتطلّب تشغيل النول مهارة يدوية تعتمد على استخدام الأيدي والأقدام معاً لإنتاج بُسُط ذات جودة عالية. تشير الحفريات الأثرية إلى أن صناعة النسيج في فلسطين تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد. وتوضح مديرة المشاريع في مؤسسة "الرؤيا الفلسطينية" في القدس، فيولا عطا الله، أن الفلسطينيين مارسوا هذه الحرفة منذ القدم، مستفيدين من توفر الصوف المستخرج من الماعز والجمال.

وشهدت العصور الوسطى ازدهاراً لهذه الصناعة في مدن مثل صفد، والمجدل، ونابلس، وأبو ديس، والجليل، والناصرة، وغزة، إذ كانت هذه المدن مراكز رئيسية لحياكة السجاد يدوياً وصناعة الألبسة وأكياس الحبوب وغيرها من المستلزمات. تؤكد عطا الله أن مدينة المجدل (مجدل عسقلان) كانت من أهم مراكز النسيج في فلسطين. وتأتي هذه المعلومات ضمن بحث متخصص أصدرته مؤسسة "الرؤيا" بالتعاون مع جمعية "الروزنا للتراث المعماري"، في إطار جهود توثيق الحرف التقليدية وحمايتها من الاندثار.

وتتنوع أنواع النول المستخدمة في فلسطين، أبرزها النول الأرضي، المنتشر في بلدة السموع بالخليل وبين بدو النقب، بالإضافة إلى "النول بالبدّالة" أو "النول بالدواسة"، الذي يُشغل يدوياً ويعتمد على دواسة القدم، وهو الأكثر استخداماً في قطاع غزة لحياكة "البساط المجدلاني". يتكون النول المجدلاني من 400 خيط مصفوف بشكل متوازٍ، كما يحتوي على "المطواية"، وهي قطعة خشبية تُستخدم للف السجاد.

إسرائيل تضيّق وتدمّر
تُعرف عائلة الصواف بإتقانها لهذه الحرفة، التي ارتبط اسمها بخيوط الصوف ونسجه على النول. يتحدث مدير شركة الصواف للسجاد اليدوي، حسني محمود الصواف، عن وراثته للمهنة عن والده وأجداده، قائلاً: "ورثتها عن والدي الذي ورثها عن جده، وكان يقول إن عمر المشغل أكثر من 150 عاماً". يوضح أن مشغل العائلة في حي التفاح بمدينة غزة كان يضم 15 آلة نول ويعمل به 15 عاملاً، لكنه تضرّر بشدة في الحرب الأخيرة. يضيف الصواف أن الحرفة مهددة بالاندثار بسبب قلة المشاغل العاملة في غزة، إذ تتطلب مهارات خاصة وجهداً كبيراً، فضلاً عن نقص المواد الخام التي تُستورَد من الخارج. بعض البُسُط تستغرق يوماً كاملاً في الحياكة، بينما يستغرق إنتاج بُسُط أخرى نحو 15 يوماً، وفقاً لحجمها وتعقيد نقشتها.

"النول الخشبي" تراث مهدد بالاندثار في إدلب

ولم يسلم مشغل "السلك" في حي الشجاعية من التدمير، إلا أن صاحبه، علي السلك (38 عاماً)، الذي بدأ العمل فيه منذ سن السابعة عشرة، يصرّ على العودة إلى المشغل قائلاً: "سنرجع إلى ديارنا ومشغلنا. لدينا ثمانية عمّال معظمهم من أفراد العائلة، وكان لدينا ثمانية أنوال خشبية، جميعها دُمرت، لكننا سنعيد تصنيعها من جديد". يوضح السلك أن "كل متر من البُسُط يحتاج إلى ساعة من الغزل، ويجري تصديرها إلى الضفة الغربية، حيث تُستخدم في المناسبات والأفراح، وكذلك كهدايا سياحية". لكنه يشير إلى أن الاحتلال الإسرائيلي، من خلال سياساته القمعية والقيود المفروضة على المواد الخام، أسهم بشكل كبير في تراجع الحرفة.

حرفة النول مهددة بالاندثار
تحذّر فيولا عطا الله من أن حرفة النول مهددة بالاندثار، مؤكدةً الحاجة إلى تدخل عاجل لحمايتها وضمان نقلها إلى الأجيال المقبلة. وتقول إن بعض النساء البدويات ما زلن يحتفظن بمعرفة الحرفة، لكنهن لا يمارسنها بسبب تغيّر أنماط الحياة. تشير عطا الله إلى أن مؤسستي "الرؤيا" و"الروزنا"، بالتعاون مع وزارة الثقافة الفلسطينية، بدأت العمل على إعداد ملف لتسجيل النول ضمن قائمة التراث العالمي لدى منظمة يونسكو، في محاولة لإنقاذ هذا الإرث الثقافي من الاندثار. رغم كل التهديدات والمعيقات، لا يزال النول حاضراً في الذاكرة الفلسطينية، لكنه في حاجة إلى جهود جماعية من المؤسسات الفلسطينية والمجتمع المدني والجهات الدولية، في إطار اتفاقية "صون التراث الثقافي غير المادي لعام 2003"، لضمان إدراجه ضمن قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر، وتأمين استمراريته للأجيال المقبلة.

سبت, 08/03/2025 - 11:14