
الوئام الوطني : شكّل الخطاب الذي وجّهه رئيس الجمهورية، محمد ولد الشيخ الغزواني، مساء أمس إلى الشعب الموريتاني بمناسبة الذكرى الخامسة والستين للاستقلال الوطني، محطة سياسية واقتصادية واجتماعية لافتة، بالنظر إلى حجم القرارات التي حملها، واتساع دائرة الملفات التي تطرق لها، وتزامنه مع ظرفية وطنية وإقليمية دقيقة تستوجب وضوحا في الرؤية وتماسكا في الأولويات.
فالخطاب، على الرغم من طابعه الاحتفالي، جاء مُحمّلا برسائل سياسية وإصلاحية تؤشر إلى انتقال الدولة نحو مرحلة أكثر اتساعا في السياسات الاجتماعية، وأكثر انفتاحا على الحوار الوطني، وأشد حزما في محاربة الفساد وترسيخ قيم المواطنة.
أولى الرسائل البارزة تمثلت في الإعلان عن زيادات معتبرة في رواتب المعلمين والمفتشين وأفراد القوات المسلحة وقوات الأمن، بمقدار 10 آلاف أوقية قديمة ابتداءً من شهر يناير 2026.
وتكمن أهمية هذه الزيادات في كونها تستهدف فئات تشكل نواة صلبة لاستقرار الدولة، المعلمون بوصفهم ركائز المنظومة التربوية، والعسكريون والأمنيون باعتبارهم حماة السلم الأهلي.
كما أن رفع علاوة الطبشور بـ20 ألف أوقية قديمة يحمل دلالتي الاعتراف بثقل المهام اليومية داخل الأقسام، وتحسين الظروف العملية للمدرسين بما ينعكس على جودة التعليم.
وقد تعزز هذا التوجه بإعلان بناء 1200 فصل وترميم 2250، وإضافة 3743 مدرّسا جديدا.
وبذلك أعاد الخطاب الاعتبار لقطاع ظل لعقود عنوانا للاختلالات البنيوية.
لقد إعادة الخطاب التذكير بالتزام رئيس الجمهورية بالحوار الوطني، فلم يكن مجرد إحالة بروتوكولية، بل جاء ضمن سياق يعكس تقدما فعليا في المسار التحضيري.
فالإعلان عن تسلم الرئاسة للتقرير النهائي من منسق ملف الحوار يؤكد أن البلاد باتت أقرب من أي وقت لفتح صفحة سياسية جديدة تُبنى على التوافق، وتستجيب لحاجة الساحة الوطنية إلى آلية تفاهم عميقة تُبعد الاحتقان وتُحدد قواعد اللعبة الديمقراطية خلال المرحلة المقبلة.
وفي بُعده الاجتماعي، كان الخطاب غنيا بالأرقام الدالة، حيث أن مضاعفة الإنفاق الاجتماعي بنحو 40 مليار أوقية قديمة تعطي انطباعا واضحا بأن الدولة اختارت توجيه بوصلة السياسات العامة نحو الفئات الهشة.
إن التكفل الصحي بـ100 ألف أسرة فقيرة، وتوسيع نطاق التأمين ليشمل الوالدين وطلاب التعليم العالي، يكرّس توجها اجتماعيا غير مسبوق، يعزز حضور الدولة في مجال الرعاية ويعيد الاعتبار للأمان الاجتماعي باعتباره رافعة للاستقرار ومحاربة الفقر.
كما أن استمرار التحويلات النقدية لـ140 ألف أسرة، والعمل بآلية تثبيت الأسعار، يعكس وعيا رسميا بضغط الغلاء وتداعياته على القوة الشرائية.
ومن الزاوية الاقتصادية، حرص الخطاب على تقديم صورة متوازنة للوضع المالي والاقتصادي للبلد، حيث تم تسجيل نمو مرتقب بنسبة 4.5% خلال 2025، وتضخم تحت 2%، وميزانية 2026 بزيادة تفوق 10%، مع بقاء العجز في حدود 3.5%، وتراجع الدين العام إلى 43.3%.
هذه المؤشرات، في قراءة تحليلية، تعني أن الحكومة تسعى لإظهار قدرة على التوفيق بين توسيع الإنفاق الاجتماعي وتحقيق الانضباط المالي، وهي معادلة صعبة في الدول التي تعتمد إلى حد كبير على تقلبات أسعار المواد الأولية.
وفي ملف الفساد، جاءت لهجة الرئيس حاسمة.
فالتأكيد على مكافحة الفساد “بطريقة مؤسسية ومسؤولة” يعكس حرصا على تجنيب هذا الملف حساسية التوظيف السياسي، والحفاظ على مصداقية مؤسسات الرقابة.
ويأتي هذا في سياق ترقب وطني لدفعة جديدة من الإصلاحات القانونية والمؤسسية التي تجعل من محاربة الفساد سياسة مستمرة لا ظرفية.
إن الإعلان عن أكبر عملية اكتتاب تضم حوالي 3000 شاب، يمثل استجابة مباشرة لتحدي البطالة الذي يُعد أحد أبرز هموم الشباب الموريتاني.
وتنوع التخصصات، من الأكاديميين إلى الأطباء والمهندسين والقضاة وضباط وأعوان الجمارك، يعكس توجها لإعادة بناء الإدارة العمومية بضخ دماء جديدة وتطوير كفاءاتها.
لقد اختُتم الخطاب برسالة سياسية وأخلاقية صريحة مفادها انه "لن تُبنى الحقوق والواجبات إلا على أساس المواطنة، ولن يُسمح للاعتبارات القبلية أو العرقية أو الفئوية بالتأثير على وحدة المجتمع".
هذه الفقرة تحديدا تبدو بمثابة إعلان استراتيجي ينقل الدولة من إدارة التوازنات الاجتماعية التقليدية إلى بناء دولة القانون والمساواة، وهو مسار تحتاجه البلاد لتعزيز اللحمة الوطنية وتحصين السلم الأهلي.
ويمكن القول إن خطاب الذكرى الخامسة والستين للاستقلال الوطني لم يكن مجرد عرض لقرارات حكومية، بل كان خريطة طريق ترسم ملامح مرحلة جديدة تقوم على تكريس البعد الاجتماعي للدولة، ومواصلة الإصلاحات الاقتصادية والمالية، والانفتاح على توافق سياسي واسع، فضلا عن تجديد الإدارة وتحسين الخدمات، وترسيخ المواطنة كمرجعية جامعة.
إنه خطاب يعكس إدراكا رسميا بأن الدولة، في عامها الـ65، تقف على عتبة تحول يحتاج إلى روح إصلاحية هادئة، لكنها واثقة، قادرة على الجمع بين التنمية والعدالة والاستقرار السياسي.
*- المدير الناشر لوكالة الوئام الوطني للأنباء
إسماعيل ولد الرباني


.gif)
.png)
.jpg)
.gif)

.jpg)

.jpg)