أريد أن أبقى من الصحة/ الدكتور محمد عبد الله مكاه (حمّاد)*

بعد سنوات طويلة قضيتها في قطاع الصحة، ممارسًا وباحثًا وإطارًا إداريًا، ثم انتقالِي لاحقًا إلى قطاع التعليم العالي، وجدتُ نفسي مدفوعًا إلى تأمل عميق في الفوارق غير المرئية بين القطاعين؛ فوارق لا تقاس بالأجور ولا بالرتب الوظيفية، بل بالقيمة المعنوية والإنسانية للعاملين فيهما.

لا خلاف على أن أستاذ التعليم العالي، في كثير من الأحيان، قد يتقاضى أجرًا أعلى مقارنة بعدد من عمال قطاع الصحة، خصوصًا الممرضين والقابلات وبعض الفنيين. غير أن التجربة الميدانية علمتني أن القيمة الحقيقية لا تُختزل في الدخل، بل في الروح الجماعية والتضامن الإنساني الذي يطبع قطاعًا دون آخر.

قطاع الصحة: مهنة تُنتج التضامن قبل الخدمات.

في قطاع الصحة، يكفي أن تُعرّف بنفسك لزميل  طبيبًا كان أو ممرضًا أو قابلة أو تقنيًا  حتى تجده في خدمتك، لا يسألك عن مصلحتك ولا عن موقعك الإداري، بل يكفيه أنك “زميل”.
الزمالة هنا ليست شعارًا، بل ممارسة يومية، وثقافة متجذرة، وهو ما يجعل هذا القطاع مميزًا رغم قساوة ظروفه وضغطه النفسي والجسدي.

لقد عشت هذا التضامن داخل الوطن وخارجه، وأستحضر هنا تجربة شخصية تعود إلى سنة 1992، حين رافقتُ إحدى قريباتي للاستشفاء في السنغال خلال فترة أزمة سياسية، وكانت محجوزة في مستشفى Principal بدكار.
ورغم غياب العلاقات الدبلوماسية آنذاك بين البلدين، إلا أن بطاقتي المهنية وتقديمي لنفسي كعامل في قطاع الصحة كانا كافيين لأُستقبل بالترحيب، وفتح الأبواب في كل جناح من أجنحة المستشفى، وأجد تسهيلات وتعاونًا صادقًا من زملاء لم تجمعني بهم لغة ولا جنسية، بل مهنة إنسانية واحدة.

وهذا التضامن لا يعرف حدودًا ولا مسافات؛ في باريس، أو في الولايات المتحدة، أو في أي منشأة صحية في العالم، يكفي أن تقول: “أنا من قطاع الصحة”، لتجد الاحترام والمساندة والاحتواء.

أما في قطاع التعليم، وفي أغلبه للأسف الشديد، فتجد زمالة ضعيفة وروابط شبه مقطوعة.

ومع احترامي العميق لمهنة التعليم ورسالتها النبيلة، لا يمكنني إغفال ضعف العلاقات الإنسانية بين منتسبي هذا القطاع، سواء في التعليم الابتدائي أو الثانوي أو حتى التعليم العالي.
فالزمالة هنا في كثير من الأحيان لا تعني شيئًا، والعلاقات المهنية يغلب عليها الطابع الفردي، بل أحيانًا التنافس السلبي، والانغلاق، وغياب روح الفريق.

قد يمر الأستاذ بجانب زميله دون أن يشعر بواجب الدعم أو التضامن، وكأن الرابط المهني انقطع، أو لم يولد أصلًا. وهذا ما ينعكس سلبًا على المناخ العام، وعلى الإحساس بالانتماء، بل وحتى على جودة الأداء التربوي نفسه، حيث يتناسى الكثيرون أن البركة في العلاقات قبل الرواتب.

ولعل من حكمة الله سبحانه وتعالى أن أنزل البركة في قطاع الصحة، فجعل الناس تتوجه إليه لقضاء حوائجها الصحية، رغم محدودية الإمكانات وضغط العمل، لأن العلاقات الإنسانية فيه لا تزال حية، ولأن العاملين فيه يدركون أن الإنسان لا يُداوي وحده، ولا ينجو وحده.

إنني أكتب هذه الكلمات لا للمقارنة السلبية، ولا للانتقاص من أي قطاع، بل للتنبيه إلى أهمية إعادة بناء الزمالة والتضامن داخل قطاع التعليم، لأن العلاقات الإنسانية ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية.

فمهما بلغ الإنسان من علم أو منصب، سيظل محتاجًا إلى الآخرين.
والقيمة الحقيقية لأي مهنة لا تكمن فقط فيما تمنحه لصاحبها، بل فيما تزرعه بين منتسبيها من إنسانية، وتكافل، وشعور عميق بالانتماء.

والله ولي التوفيق

 

*- أستاذ جامعي وممارس سابق في وزارة الصحة

 

ثلاثاء, 16/12/2025 - 12:05