لا يحتاج المثقف إلى كبير عناء لإدراك أن العشرية الأخيرة كانت كارثة على البلد، ليس من الناحية الاقتصادية التي استنزفت خيرات البلد في سوء تسيير منقطع النظير طبعه الإثراء السريع والفاحش للمتنفذين، والانتشار الواسع للمشاريع الفاشلة، والتراكم المخيف للديون الخارجية، فحسب، بل وأيضا من الناحية السياسية التي حاصرت فيها هذه العشرية التي أمسك الرئيس محمد ولد عبد العزيز بكل مفاصلها الأحزاب السياسية ورجالها الذين رفضوا الاستسلام لترغيب أو ترهيب السلطة، حتى أصبحت ممارسة المعارضة السياسية في هذا البلد عبئا ثقيلا على الفرد وأسرته ومحيطه الاجتماعي، بسبب وجوده في وضعية يلقى نفسه فيها محروما من الوظائف والامتيازات والصفقات، والعلاقات مع الإدارة العمومية وممثليها في الداخل، مطاردا من قبل الضرائب وكل أشكال القهر. ولم تحن انتخابات 2019 حتى كانت الأجواء مهيئة عمليا لانتخابات صورية، لا تملك المعارضة فيها وسائل منافسة جدية قادرة على منع استمرارية لعبة تبادل الكراسي داخل النظام.وكان السيناريو الذي ينتظر الساحة السياسة هو: نزهة انتخابية سهلة تحقق فوزا كاسحا لمرشح النظام مقابل مجموعة من المرشحين المعارضين غير قادرين على منافسته بصورة جدية.. وكان واضحا من التوجهات السياسية للأحزاب أنّ رحيل ولد عبد العزيز بعد انتخابات 2019 كان سيمثل فرصة لأغلبها أو أغلب قياداتها للانتقال إلى الموالاة، وهو انتقال ظهرت بوادره جلية حتى قبل مغادرة ولد العزيز "المفترضة" للسلطة.. وكانت هذه الوضعية تؤشر لتحول جذري في نمط الممارسة السياسية في موريتانيا، حيث لن تكون هناك في المستقبل أحزاب سياسية قوية تمارس حقها في المعارضة، بل أحزاب ضعيفة مفككة ومحاصرة، وهذه وضعية لن يكون قادرا على الاستمرار فيها إلا الأحزاب الحركية التي تستمد نضالاتها من قناعاتها السياسية، وهي أحزاب محدودة الاستقطاب عادة ما لم تستند إلى قواعد اجتماعية أو عرقية. إذن كان المنتظر بعد انتخابات 2019 بتعبير مبسط أنه لن تكون هناك أحزاب سياسية جادة باستثناء تلك الحركية سواء كانت إيديولوجية أو عرقية، ولن يقبل "البيظان" فيه باستثناء القلة المؤدلجة منهم الانخراط في المعارضة مستقبلا، بل سيلتحقون عن بكرة أبيهم بالسلطة طلبا للمنافع وفرارا من الحصار والتضييق، وستكون المعارضة خالصة أو شبه خالصة لـ"لحراطين" و"الزنوج" الذين لا يجدون ذواتهم في النظام.. سنتدحرج دون أن نفطن إلى تمايز عرقي سياسي واضح، فـ"البيظان" المحدودين الذين سيظلون في المشهد المعارض لن يكونوا بحجم يسمح لهم بالتأثير على المشهد العرقي الآخذ في التشكل، مع ما سينجر عن ذلك من تكريس للاصطفاف العرقي وبروز المطالب المرتبطة به عادة: وهي تقاسم الثروة وتقاسم السلطة أو الاصطدام.وفي خضم بوادر هذا التحول المقلق قرر فجأة السيد سيدي محمد ولد بوبكر ولوج عالم السياسة والترشح للانتخابات الرئاسية، وقرر أيضا أن يكون ذلك من بوابة المعارضة التي عبر عن استعداده لتبني نضالاتها وطموحاتها.أدخل هذا التطور معطى جديدا على معطيات الساحة التقليدية فولد بوبكر شخصية اقتصادية مالية وتكنوقراطية مرموقة، شغل منصب الوزير الأول مرتين في أحلك الظروف وقادها باقتدار، كما تدرج في جميع المناصب المالية والاقتصادية للبلد. ورغم أنه عمل في ظل خمسة أنظمة متوالية بعضها طبعه الفساد الواسع فقد خرج من جميع ذلك نظيف اليدين بسمعة طيبة. وبدا واضحا لعدد كبير من السياسيين أن ولد بوبكر قادر على منح المعارضة ما ينقصها لخوض غمار انتخابات جادة في وجه مرشح النظام، سواء من الناحية الجماهيرية أو الناحية المادية، وراهن بعضهم على أنه سيمثل بالنسبة للمعارضة إضافة جديدة تذكر بإضافة ولد داداه لها 1991.والأهم من كل هذا أنه قادر على أن يعيد للمعارضة السياسية تماسكها في وجه الاصطفاف العرقي الذي كانت البلاد قاب قوسين أو أدنى منه.. إنه فرصة لإعادة موريتانيا إلى الجادة الصحيحة بعد عشر سنوات من الحكم الفردي سواء فاز في الانتخابات وهو احتمال وارد جدا بشرط أن تتخلى المعارضة -أو المعارضات على الأصح- عن الحسابات البراغماتية للشوط الثاني التي أفقدتها السلطة 2007. وحتى إذا لم يفز فسيكون قادرا على لعب دور رئيس في أي حوار أو عملية سياسية مقبلة.. ستحتاجه موريتانيا بالتأكيد في قابل الأيام لأن الفوز إذا كان من نصيب مرشح النظام فإن واقعا جديدا سيولد مع ما يحمله من تحديات تحتاج المعارضة معها في لحظة معينة إلى رجل كولد بوبكر.ولكل ما تقدم من اعتبارات لم أتردد لحظة واحدة في دعمه، حيث إنه الرجل الذي تحتاجه موريتانيا في هذه المرحلة لخوض انتخابات جادة تنهي عقودا من حكم العسكر وتقف في وجه طموحات نظام يريد أن يستمر بكل الوسائل، ولم تعد هناك من وسيلة تسمح باستمراره بطريقة طبيعية سنوات أخرى.
الحسين ولد محنض