رفع محمد الحسن ولد لبات إشارة النصر وهو يستعد لإلقاء كلمة بمناسبة التوقيع على وثيقة دستورية تنهي الأزمة في السودان. ومع نهاية كلمته، حمله السودانيون على الأعناق وفاء للرجل الذي آمن منذ البداية بقدرتهم على التوصل لحل سلمي توافقي، وكانت ابتسامته الوقورة ولغته العربية الجزلة، مع خبرة كبيرة في حل النزاعات الأفريقية، هي المميزات التي توكأ عليها الرجل لإطفاء نار واحدة من أسوأ الأزمات في تاريخ السودان الحديث؛ أزمة دفع فيها السودانيون الثمن من أرواح شبابهم الطامحين إلى التغيير، في ثورة أعادت للسودان عنفوان شبابه، وأحيت تاريخه المتجذر وقصص الأميرات الكنداكات السمراوات الجميلات.
ولكن الخبير القانوني والدبلوماسي الموريتاني يعيد هذا الانتصار إلى إرادة السودانيين التي يقول إنها هي التي صنعت المعجزة، مكتفياً بالقول إن عمله كان تسهيل الأمور كوسيط يقف على الحياد، ويؤمن بالحوار وسيلة وحيدة لإيجاد الحل، ويستند إلى إرث كبير من حب السودان وشعبه، ورثه من البيئة التي تربى فيها هناك في بوادي موريتانيا، على الضفة الأخرى من أفريقيا؛ يقول الرجل إن الحب هو الذي منحه القدرة على الصبر والإيمان والتفاؤل خلال 452 اجتماعاً عقدها مع أطراف أزمة السودان.
وينحدر محمد الحسن ولد لبات من بيئة تقليدية محافظة في الجنوب الغربي من موريتانيا، وهو من مواليد 1953، في ضواحي مدينة «واد الناقة» التي تبعد 50 كيلومتراً إلى الشرق من نواكشوط، حيث تقيم قبيلته المعروفة في الجنوب الموريتاني بأنها قبيلة علم، حيث تبحر رجالها في اللغة والنحو والفقه.
المنطقة التي تربى فيها «ولد لبات» كانت تقع بين مدينتي «نواكشوط» و«بتلميت»، وهما أهم مدينتين موريتانيتين في تلك الحقبة، فالأولى عاصمة البلاد، والثانية ينحدر منها «أبُ الأمة» المختار ولد داداه؛ في هذه الأجواء والبيئة تربى الفتى، وأكمل حفظ القرآن الكريم وبعض متون اللغة والنحو والفقه، وعندما كان يشد الرحال نحو العاصمة نواكشوط لدخول المدرسة الابتدائية، كانت البلاد تنال استقلالها عن المستعمر الفرنسي (1960)؛ خرج الفتى «ولد لبات» من قريته الصغيرة إلى العاصمة التي لم يمض على تأسيسها أكثر من 4 سنوات فقط، وما تزال بعيدة من أن تحمل صفة المدينة، ولكنها مع ذلك كبيرة بالمقارنة مع باديته البسيطة التي تتشكل من خيام الوبر المصنوع محلياً، والقماش الذي يجلبه التجار من المغرب وبلاد السودان.
عندما وصل إلى نواكشوط، كانت الأجواء العامة في البلاد غير مستقرة سياسياً، فالرئيس «ولد داداه» وأنصاره يحتفلون بالاستقلال، بينما يقبع رموز معارضته في السجن، وهم الذين يعدون الاستقلال غير حقيقي، ويناضلون من أجل خروج الفرنسيين بصفة نهائية، وتعريب الإدارة والتعليم، وهي مطالب عدها «ولد داداه» سابقة لأوانها، فالبلد هش، وليس من مصلحته أن يقطع الصلة بالمستعمر السابق.
وكانت حركة «الكادحين» اليسارية تتصدر النضال المعارض، وتحقق انتشاراً واسعاً في صفوف الشباب والنساء، فخطف بريقها بصر الفتى القادم من البادية رغم صغر سنه. ومع نهاية ستينات القرن الماضي، أصبح واحداً من قادة الحركة الطلابية، ليُطرد من الثانوية بسبب مواقفه المعارضة، ويدخل السجن عدة مرات نهاية الستينات ومطلع السبعينات، وهو لما يكمل بعدُ عقده الثاني.
بعد خروجه من السجن، كانت نضالات حركة «الكادحين» التي ينشط في صفوفها قد أثمرت عن قرار بتنظيم أول امتحان باكالوريا باللغة العربية عام 1974، فقرر أن يشارك فيه وهو الذي درس باللغة الفرنسية، ولكن ذلك لم يمنعه من الحصول على شهادة بكالوريا مكنته من دخول مدرسة تكوين الأساتذة بنواكشوط، ليتخرج منها أستاذاً مزدوجاً، يدرس باللغتين: العربية والفرنسية، وهو أمر مطلوب وميزة كبيرة في تلك الفترة.
- المهمة الأولى خاض «ولد لبات» تجربة التدريس في ثانويات موريتانيا خلال الفترة الممتدة من 1977 حتى 1979، من دون أن يوقف نشاطه السياسي، فكان عضواً فاعلاً في المجلس الأعلى للشباب، بعد اندماج حركة «الكادحين» اليسارية في حزب الشعب الموريتاني الحاكم، وأبان في تلك الفترة عن مؤهلات رشحته لنيل ثقة الرئيس المختار ولد داداه الذي كلفه بمهمة سرية كمبعوث إلى جبهة البوليساريو عامي 1976 و1977، في عز «حرب الصحراء» المشتعلة بين موريتانيا والجبهة، لقد كانت تلك هي أول وساطة يقوم بها «ولد لبات» وهو في الـ23 من العمر، من أجل إنهاء صراع مسلح. كان نظام «ولد داداه» يريد إيقاف الحرب التي أنهكت موريتانيا وجيشها ضعيف العتاد والخبرة، ولكن مهمة «ولد لبات» لم تفضِ إلى نتيجة، فتدخل قادة المؤسسة العسكرية، وأنهوا الحرب على طريقتهم (1978)، حين عزلوا ولد داداه، وانسحبوا من ساحات القتال لتولي مقاليد الحكم، رفض «ولد لبات» العمل مع الحكومة العسكرية الأولى، وغادر البلاد متوجهاً إلى العاصمة السنغالية دكار، حيث درس في كلية القانون، وواصل نشاطه السياسي كمعارض للنظام العسكري، وتم اعتقاله وسجنه خلال حكم الرئيس محمد خونه ولد هيدالة (1981 - 1984) الذي يوصف بأنه واحد من أكثر الأنظمة العسكرية قسوة في تاريخ موريتانيا. حصل «ولد لبات» عام 1987 على شهادة دكتوراه في القانون الخاص من جامعة «تولوز» الفرنسية، ليعود فوراً إلى بلاده ويعمل أستاذاً في الجامعة، قبل أن يُعين عميداً لكلية العلوم القانونية والاقتصادية، ولكن التجربة الأكبر والأهم في حياته كانت عام 1991، عندما عينه الرئيس الأسبق «معاوية ولد سيد أحمد الطايع» رئيساً للجنة صياغة أول دستور ديمقراطي تعددي في موريتانيا، وبعد أن نجح في مهمة صياغة الدستور الذي اعتمد في استفتاء شعبي، عينه «ولد الطايع» رئيساً للجامعة (1991)، وهو المنصب الذي استمر فيه حتى تعيينه وزيراً للخارجية عام 1997. ويوصف «ولد لبات» من طرف كثيرين بأنه المؤسس الفعلي لجامعة نواكشوط، بعد أن كانت قد تأسست شكلياً عام 1981، فهو من شيد بناياتها الكبيرة، ووسع كلياتها ومدرجاتها، لتصبح بشكلها الحالي، كما أدخل تحسينات مهمة على مناهجها ونظمها التربوية، إلا أن فترته لم تخلُ من تجاذبات سياسية قوية داخل الساحة الجامعية التي كانت مهد «إضرابات الخبز» الشهيرة منتصف التسعينات، حين اقتحمت الشرطة الحرم الجامعي، واعتقلت عدداً كبيراً من الطلاب المحتجين على ارتفاع أسعار الخبز.
العمل الدولي
خرج «ولد لبات» من رئاسة جامعة نواكشوط متوجهاً إلى وزارة الخارجية، ليحمل أول وآخر حقيبة وزارية له (1997 - 1998)، وذلك في إطار حكومة كفاءات عينها «ولد الطايع» بعد انتخابات رئاسية قاطعتها المعارضة، وأثيرت كثير من الشكوك حول نزاهتها. وبعد تجربته القصيرة في الحكومة، توجه «ولد لبات» إلى العمل الدولي، فعمل مع المنظمة الدولية للفرانكوفونية التي أوفدته مبعوثاً إلى بوروندي (1998 - 2000). بعد ذلك، شغل منصب مدير مكتب الوسيط الأفريقي في الحوار بجمهورية الكونغو (2002 - 2000)، وهي المهمة التي كان دوره فيها محل إشادة إقليمية ودولية، وألف كتاباً صدر عام 2005 باللغة الفرنسية حول هذه التجربة.
وعندما ذاع صيت «ولد لبات» في الساحة الأفريقية والدولية، بعد النجاح الذي حققه في الكونغو، استدعاه الرئيس الموريتاني «ولد الطايع»، وطلب منه أن يعمل معه في الحكومة، وعينه على الفور سفيراً في أديس أبابا، لدى إثيوبيا والاتحاد الأفريقي، وهو منصب يناسب الرجل ولا يبعده كثيراً عن أروقة الاتحاد الأفريقي، وقد استمر فيه لعامين؛ من 2003 حتى 2005، ليعين بعد ذلك سفيراً لدى جنوب أفريقيا حتى عام 2007.
وقع انقلاب عسكري على «ولد الطايع» عام 2005، ليلعب «ولد لبات» دوراً أساسياً في إدارة ملف العلاقات الخارجية لنظام المرحلة الانتقالية، خصوصاً العلاقة مع الاتحاد الأفريقي، ويقول مقربون منه إنه ساهم في صياغة تصور للمشروع التوافقي في موريتانيا، وصياغة التعامل مع الهيئات الدولية حتى العودة إلى الوضع الدستوري.
بعد وصول الرئيس المدني «سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله» إلى الحكم في انتخابات 2007، رجع «ولد لبات» إلى العمل في المنظمات الدولية، واعتزل السياسة المحلية بشكل تام، فعمل ممثلاً للأمين العام للمنظمة الدولية للفرانكفونية في تشاد (2008) لتسوية النزاع الداخلي هناك، وهو الملف الذي حقق فيه نجاحاً كبيراً، وبعد ذلك كلف بملف جمهورية الكونغو الديمقراطية (2013)، ثم عمل منسقاً لجهود الاتحاد الأفريقي والمجموعة الدولية من أجل تسوية الأزمة في جمهورية أفريقيا الوسطى (2016)، وقد رشحته هذه التجارب ليكون المبعوث الأفريقي إلى السودان (2019)، النجاح الأكبر في مسيرة الرجل.
منذ 2007 اعتزل «ولد لبات» العمل السياسي في موريتانيا، وكرس وقته للعمل الدولي، ويقول أحد المقربين منه إن لديه حرصاً كبيراً على عدم التدخل في التجاذبات السياسية المحلية، ويضيف المصدر ذاته أن علاقة شخصية قوية تربطه بالرئيس الموريتاني الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني.
متعصب للغة
يقول أستاذ جامعي سبق أن عمل لسنوات طويلة مع «ولد لبات» إنه رجل واسع الثقافة رغم تكوينه القانوني، مولع بالشعر ويحفظ الكثير منه، مهتم كثيراً بالنحو واللغة، ومولع أيضاً بالاستماع للموسيقى، ويتمتع بشبكة علاقات واسعة جداً في أفريقيا وفي المشرق العربي، وقد شارك في كثير من المؤتمرات الفكرية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط، وكان ضيفاً في مناسبات كثيرة على مؤتمرات مؤسسة الفكر العربي.
ورغم عمله لسنوات طويلة في أروقة المنظمة الدولية للفرانكفونية في باريس وكثير من العواصم الأفريقية، ظل «ولد لبات» متمسكاً ببعده العربي، بل إن بعض المقربين منه يصفونه بالمتعصب والمهوس باللغة العربية، وينفر بشدة من اللحن والخطأ فيها، ويدافع عن نفسه حين يقول إن عمله في المنظمة الفرانكفونية كان مرتبطاً بشكل أساسي بعمليات حفظ السلام في أفريقيا، رغم اعتزازه بثقافته الفرنسية الرصينة.
لسنوات كثيرة كان «ولد لبات» أستاذاً زائراً في كثير من الجامعات الغربية (كندا والولايات المتحدة)، يدرس التشريع الإسلامي، وهو المتمكن من ناصية اللغة الإنجليزية، ويقول مقربون منه إنه حرص على تدريس هذا التخصص وحده من بين تفريعات القانون الكثيرة التي يمكنه تدريسها.
الوسيط الناجح؟
يصف «ولد لبات» كتابه عن الوساطة في الكونغو، مطلع الألفية الثالثة، بأنه «شهادة» يهديها إلى أطفال الكونغو «المستفيدون الحقيقيون وبُناة المستقبل»، وقد اختار لغلاف كتابه صورة لثلاثة أطفال كونغوليين وظلالهم، فيما ختم كتابه بالحديث عن زيارته لقرية نائية في الكونغو كان الوصول إليها صعباً بسبب أعمال العنف، ولكن مهمته كوسيط يبحث عن السلام فرضت عليه التنقل إليها؛ قال إنه لن ينسى أبداً نظرات أطفال تلك القرية التي تركت أثراً بالغاً في الرجل، الأثر نفسه الذي ستتركه «كنداكة» السودان بعد قرابة عشرين عاماً.
يتحدث «ولد لبات» في كتابه عن «التشاؤم الأفريقي» الذي هو حالة نفسية ناتجة عن «تكرار وتنوع وقوة الصراعات الأفريقية»؛ صراعات يرى الرجل أنها مظهر من مظاهر أزمة الدولة الأفريقية «الحديثة»، أو الدولة ما بعد الاستعمار، ويضيف أن نظرة «التشاؤم» تسندها الخريطة الجيوسياسية، ويضيف: «من الأركان الأربعة للكوكب الأفريقي، تتصاعد ألسنة اللهب، في واحدة من أكثر السيمفونيات كآبة وخزياً»، ولكنه يفتح باب الأمل حين يؤكد إيمانه بـ«الحل الأفريقي»، وهو حل «سلمي توافقي» تجسد في الكونغو، وتأكد في السودان.
ويؤكد الدبلوماسي الموريتاني أن «الوسيط» أو «المساعد» يمكن وصف مهمة أي واحد منهما بالناجحة عندما تصل إلى وقف فوري لاستخدام القوة، وتتيح الفرصة أمام كل طرف لإنقاذ ماء وجهه، أو عندما تشجع على توقيع اتفاق تسنده حظوظ وضمانات لأن يطبق.