بن بيه..المجتهد ورائد الاصلاح

منذ أربعين عاماً وأكثر يعمل الشيخ الجليل عبدالله بن بيه من أجل سلامة الدين و سلام العالم.

 و قد تابعت عمله عن كثب في منتدى تعزيز السلم، و لاحظتُ كيف التقت في فكره وعمله أربعة أمور: استعادة السكينة في الدين عبر مكافحة التطرف و الإصلاح، و نشر فكرة السلام بين الأديان عبر التسامح و التعارف و إقامة الشراكات، و الإسهام في التأسيس لعهدٍ جديدٍ في الزمان الجديد للدولة الوطنية العربية و الإسلامية المتقدمة و الجامعة، و الدخول بقوة الفكر والفكرة على عالم العصر و عصر العالم في مجال تدافُع القيم بين السلم والعدل.
في هذه المجالات الأربعة أودُّ المرور بأربع محطات في فكر الشيخ و عمله: محطة مؤتمر مراكش مع وزارة الأوقاف المغربية، حيث بلور الشيخ العلاّمة مشروعاً لعلاقاتٍ أُخرى بين المسلمين و الآخرين العائشين معهم في ديارهم من المختلفين ديناً أو اعتقاداً و نهج عيش و حياة.
 و قد قام مشروعه ذاك على التسامح، و دولة المواطنة الدستورية، و العيش المشترك و المتنوع من دون تمييز و لا مثنوية. و قد استكمل الشيخ هذا المشروع في جانبه الآخر المتعلق بعيش المسلمين في العالم، حيث تصدى لمشكلات الهوية و الخصوصية و عوائق الاندماج، و التصادم بين الشعبويات و الإسلاموفوبيا من جهة، و المرارات التي تتحول إلى تطرف أو انعزال لدى الأقليات الإسلامية من جهة أُخرى.
 و قد بدا ذلك في مؤتمراته و لقاءاته بالمسؤولين الدينيين و السياسيين في الولايات المتحدة و الأقطار الأوروبية.
و لدينا في فكر الشيخ و عمله محطة أو اهتمام الدولة الوطنية المدنية والتعددية و الدستورية.
 و قد استند في ذلك إلى عهد أو كتاب المدينة الذي عقده الرسول، صلواتُ الله و سلامه عليه، بين فئات الناس المختلفة ديناً وتنظيماً اجتماعياً، لتأسيس كيانٍ قال إنه «أمةٌ من دون الناس»؛ يقوم على العيش المشترك و الإنصاف و التضامُن و حفظ الحقوق و الحريات. صحيحٌ أنّ مستشرقين سمَّوا الكتاب دستوراً من قبل، لكنّ اكتشاف الشيخ هو الطابع التعاقُدي و التعددي و المدني للكيان الجديد الطالع في أفق القرن السابع الميلادي بديلاً للكسرويات و القيصريات. و هنا الاقتران بين السلم و المساواة و الإنصاف و التشارك. ثم البعد الثالث لعهد المدينة، و هو الخروج من عبء التاريخ بالعودة لأصول التصور أو التجربة التي تلتقي مع الدولة الدستورية القائمة على التداوُل المفضي إلى التوافق على المصالح الأساسية. 
أما مقولة حلف أو تحالف الفضول و الفضائل؛ فتمثل استقراءً خالصاً للشيخ. و لها جوانب و أبعادٌ ما تنبه إليها غيره. فقد قام بالمبادرة الحارث بن عبد المطلب عم النبي صلواتُ الله وسلامُهُ عليه قبل الدعوة المحمدية.
 و كان المقصود بها حماية الضعيف و الغريب، و تحويل أخلاق الفضيلة إلى أعرافٍ مُلزمةٍ في مجتمعات التجارة و القوافل التي يكثر فيها الفساد و يظهر المطففون و المتجاهلون لحقوق الضيافة و الجوار. 
و قد لفت الشيخ الجليل إلى أنّ رسول الله، صلوات الله و سلامه عليه، قد أقرها بعد أربعين عاماً على الدعوة إليها، إشارةً إلى أنّ القيم و الفضائل الإنسانية هي نفسُها «المعروف» الذي يدعو إليه الإسلام، الدين الإبراهيمي الواحد.
و يتصور الشيخ بن بيه أنّ فضلاء العالم، كما توافقوا على ميثاقٍ عالميٍّ لحقوق الإنسان، يمكن أن يتوافقوا على قيم المعروف و فضائل الجوار و الهجرة و الضيافة، التي دعا إليها وطبقها على أنفسهم أجدادُنا الأقدمون و أقرتها الرسالات المفتوحة على الآفاق الشاسعة لفضائل الفطرة الإنسانية السليمة. 
إنّ المحطة الرابعة هي منهج الشيخ بن بيه في الفكر و العمل، إذ يجمع بين اجتهاد الفقيه، و عقلانية المفكر و الفيلسوف، و رائد الإصلاح الإسلامي و السلام الديني و الإنساني. فمعه و مع المنهج القائم على الاجتهاد النهضوي، و العقلانية الفلسفية، و إرادة الإصلاح والتغيير، نُخرج ديناً و أمةً من مأزق تدافُع القيم في النفوس و الأخلاد و الأعمال، و العلاقة المضطربة بالعالم.

إنّ قول الشيخ بتقديم السلم على العدل، يتجاوز مسألة الأولويات، إلى تعقلٍ جديدٍ للدين، و للقيم و الأخلاق النابعة منه. فقِدْماً اختلف علماؤنا في تقديم العدل أو الرحمة في علاقة المولى بعباده. 
و أشدّ ما يحتاج إليه المسلمون اليوم وجوداً و اعتباراً قيمة السِلْم و السلام. إنهم يحتاجون إليها في عيشهم و تعاملهم فيما بينهم، و في علاقاتهم بالعالم. و الأمر صعبٌ إذا نظرنا إلى الظروف المحيطة بالمسلمين وحالات الغلبة و الاستقواء.
بالأمس حصل العلاّمة بن بيه على جائزة خدمة الإسلام من ملك ماليزيا. وهي ليست التقدير الأول من جانب الجهات العربية و الإسلامية و العالمية. و إذا كان في ذلك اعتبارٌ بارزٌ للشيخ الجليل؛ فإنه يحمل دلالةً كبرى أيضاً على تقدم دعوته و عمله في مجال خدمة الإسلام، و خدمة السلام، و خدمة الإنسانية. 

د.رضوان السيد/أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت

أحد, 08/09/2019 - 11:41