الوئام الوطني - في مثل هذا اليوم، قبل عقد ونصف العقد من الزمن، أخذت موريتانيا منعطفا جديدا في مسيرتها ما بعد الاستقلال.
لقد وضع هذا اليوم حدا لحكم الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، صاحب أطول فترة حكم عرفها البلد(21 عاما)، متقدما بذلك على نظام الرئيس المؤسس الأستاذ المختار ولد داداه (18 عاما)، وقد نال الانقلاب على ولد الطايع تأييدا حزبيا وجماهيريا واسعا، نظرا للاحتقان الذي سبقه، والذي ما كان له أن ينفرج إلا بإزاحة الرئيس من المشهد.
حمل الانقلابيون حينها شعارات براقة عنوانها العدالة والتنمية، واستمرت فترتهم الانتقالية 19 شهرا تولى فيها قيادة البلد المرحوم العقيد اعلي ولد محمد فال.
وخلال تلك الفترة تمكن الطيف السياسي، بشقيه الموالي والمعارض، من تجذير الممارسة الديمقراطية من خلال مخرجات حوار وطني كان من أهمها تحديد المأموريات الرئاسية في فترتين غير قابلتين للتجديد.
ورغم المآخذ التي شابت الحملة الرئاسية اللاحقة، فقد أفرزت أول رئيس مدني منتخب في ظل نظام التعددية السياسية، هو الرئيس الأسبق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، الذي شهدت فترة حكمه انفتاحا سياسيا وإعلاميا كبيرين، قبل أن يدخل البلد في أزمة سياسية أختلقتها أطراف عسكرية بمساعدة ما اصطلح على تسميته حينها بالكتيبة البرلمانية.
تمت شيطنة نظام ولد الشيخ عبد الله، الذي عالج الأزمة بحل الحكومة وتعيين وزير أول مقربا منه، هو الأستاذ الجامعي يحي ولد أحمد الوقف، لكن ذلك لم يمنع من تفاقم الأزمة من خلال مضي بعض النواب في التصعيد، من خلال محاولات حجب الثقة عن الحكومة وتشكيل محكمة العدل السامية، فضلا عن تنظيم انسحابات جماعية من حزب "عادل"، الذي كان حينها حزبا حاكما مؤسسا على أنقاض الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي.
ومع استمرار محاولات التضييق على الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، في ظل الحديث عن استعداد الطرف المناوئ له لتنظيم هبة جماهيرية مناهضة له ستتوجه صوب القصر الرئاسي وأوامر للحرس الرئاسي بفتح أبواب القصر أمام الدهماء، أقدم الرئيس على إقالة أربعة من قادة الأجهزة العسكرية والأمنية كان من ضمنهم قائد الأركان الخاصة محمد ولد عبد العزيز، وقائد اركان الجيش محمد ولد الشيخ محمد أحمد ولد الغزواني، لكن هذا الأخير كان حينها في سفر داخلي، وحينما تواصل معه قائد الأركان المعين حديثا عبد الرحمن ولد بوبكر ليبلغه بالخبر طلب منه تهيئة المحاضر في انتظار وصوله العاصمة نواكشوط ليتم تبادل المهام، لكن وقبل وصول الغزواني كان ولد عبد العزيز قد اعتقل الرئيس ووزيره الأول، وأعلن البيان رقم واحد.
وعلى عكس الانقلاب على ولد الطايع، شهد الانقلاب على ولد الشيخ عبد الله رفضا حزبيا وجماهيريا غير مسبوق، اتحدت فيه شعارات الموالاة والمعارضة، باستثناء حزب تكتل القوى الديمقراطية الذي يرأسه الزعيم أحمد ولد داداه، والذي غرد خارج السرب وأعلن دعمه لما أسماه بالحركة التصحيحية.
أعلن ولد عبد العزيز عن تنظيم انتخابات رئاسية يوم 06 يونيو 2009 قاطعتها المعارضة، وذلك بعد استقالته من الجيش ومن رئاسة المجلس العسكري ليتولى رئيس مجلس الشيوخ المرحوم با امباري مهمة رئيس الجمهورية بالوكالة، كما ينص على ذلك الدستور، لكن جهود إقليمية وبتزكية دولية تمكنت من تنظيم حوار في العاصمة السنغالية دكار بين أطراف المشهد الثلاثة، وهي رئيس الانقلابيين، وجبهة الدفاع عن الديمقراطية المؤلفة من الأحزاب الرافضة للانقلاب، وحزب تكتل القوى الديمقراطية.
أثمر الحوار، الذي جرى على وقع حملة ولد عبد العزيز الانتخابية، اتفاقا عرف حينها ب"اتفاق دكار"، وكان من أبرز ما تضمن إلغاء انتخابات 06/06، ومشاركة الرافضين للانقلاب في الترشحات للانتخابات الرئاسية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية يحتفظ ولد عبد العزيز بوزيرها الاول وبنصف أعضائها، بينما تحصل المعارضة على حقائب هامة من ضمنها الداخلية والدفاع.
لم تعمر تلك الحكومة طويلا بعد أن فاز ولد عبد العزيز في الجولة الأولى من السباق الرئاسي، وهو الفوز الذي رفضته المعارضة متحدثة عن عمليات تزوير واسعة، وعما وصفته ب"الباء الطائرة"، ثم إنها اتهمت النظام لاحقا بالتنصل من تطبيق بقية بنود "اتفاق دكار".
بلغت الأزمة بين النظام والمعارضة أوجها سنة 2011، بعد محاولة هذه الأخيرة ركوب موجة الربيع العربي، فنظمت المسيرات والمهرجانات المطالبة برحيل النظام، لكن ولد عبد العزيز أشرف شخصيا على قمع قادة المعارضة ورشهم بمياه قيل إنها استخرجت من أنانيب الصرف الصحي.
هدأت موجة الرحيل، لكن موجات انعدام الثقة بين الطرفين ظلت عالية وفي مد مستمر، فقاطعت المعارضة الانتخابات البلدية والتشريعية، باستثناء التجمع الوطني للإصلاح والتنمية" تواصل"، الإسلامي المعارض، الذي أصبح حزب المعارضة الرئيسي تحت قبة البرلمان، واستحق بذلك منصب زعيم المعارضة الديمقراطية، لكن المعارضة قاطعت، وبإجماع تام، الانتخابات الرئاسية سنة 2014، والتي شكلت بداية المأمورية الثانية لولد عبد العزيز.
وخلال تلك الفترة شهد البلد تنظيم حوارات قاطعتها المعارضة الراديكالية، لكنها استقطبت شخصيات معارضة وازنة، وأثمرت جملة قوانين استفادت منها أحزاب المعارضة المنضوية تحت لواء منسقية أحزاب المعارضة حينما شاركت في الانتخابات التشريعية والبلدية والجهوية التي جرت خلال مأمورية ولد عبد العزيز الأخيرة واحتفظ فيها حزب تواصل بزعامة المعارضة، لكن ذلك لم ينه جو الاحتقان السياسي الذي رافق فترة حكم الرئيس السابق إلى آخر يوم في حياته السياسية.
وخلال المأمورية الثانية لولد عبد العزيز ظهرت أصوات من داخل النظام وموالاته بضرورة تغيير الدستور لتمكينه من الترشح لمأمورية ثالثة، وتمهيدا لذلك تم تعديل الدستور بطريقة وصفتها المعارضة بغير الدستورية، تم بموجبها إلغاء غرفة الشيوخ من البرلمان، كما تم تغيير العلم الوطني، وتم تحييد القوانين التي كانت أساسا لتشكيل محكمة العدل السامية، فضلا عن إصدار مرسوم رئاسي بتغيير النشيد الوطني.
لكن أصوات الدعوات لتغيير الدستور عبر مؤتمر برلماني سرعان ما خفتت بعد بيان مثير للجدل أصدره ولد عبد العزيز، وهو في سفر خارجي، أعلن فيه رفضه الترشح لمأمورية ثالثة واحترامه للدستور، وهو بيان قال البعض إنه صيغ من قبل دوائر الدولة العميقة التي أمرت الرئيس السابق بتوقيعه قبل نشره عبر وسائل الإعلام.
وبعد عودة ولد عبد العزيز من سفره، وجد لوحة مستقبل الحكم قد رسمت وعلقت، ولم يبق له غير إزاحة الستار عنها وكأنه الفنان الذي تولى رسمها، فأعلن ترشيحه لوزير الدفاع آنذاك محمد ولد الشيخ الغزواني، فكان مرشح إجماع وطني، وهو الإجماع الذي تمت ترجمته عبر صنادق الاقتراع في انتخابات رئاسية شارك فيها إلى جانبه سيدي محمد ولد بوبكر، المدعوم من قبل حزب تواصل وبعض المستقلين، وبيرام ولد الداه ولد اعبيدي، المدعوم من طرف حزب الصواب وبعض الحقوقيين، ومحمد ولد مولود، المترشح باسم حزب اتحاد قوى التقدم، والمدعوم من قبل حزب تكتل القوى الديمقراطية.
وبعد عام من حكم ولد الشيخ الغزواني، تعيش موريتانيا اليوم انسجاما سياسيا ظل غائبا لأكثر من عقد من الزمن، ونشوة انتصار على الركود الاقتصادي وجائحة كورونا، وأملا غير مسبوق بمحاربة جدية للفساد العمودي، ستفضي إلى إجراء أول محاكمة لرئيس سابق وبعض أركان حكمه في تاريخ البلد.
تحرير وكالة الوئام الوطني للأنباء