في يوم الاقتراع لبلديات ١٩٩٤، كنت أتجول في بعض المكاتب الانتخابية (في نواكشوط) محاولة مني للوقوف في وجه آلة التزوير الانتخابية للحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي، فاكتشفت أن الأمر ليس بالسرية المتوقعة وأن حوادث الغش غير قابلة للجرد لكثرتها ؛ فمثلا خلال مروري أمام مكتب "سوسيم"، لاحظت حركة مريبة لعدد كبير من الناخبين، حيث كانوا يقصدون بيتا خلف مكتب الاقتراع قبل الإدلاء بأصواتهم. ركنت السيارة الصغيرة التي كنت أستقل بمفردي وارتديت لثامي ثم اتجهت نحو البيت الخلفي، هناك كانت المفاجأة: بطاقات انتخابية شاغرة وأخرى معبأة بالمئات على الأرض وكؤوس (شاي) صغيرة ونوريا "ناخبين" ثابتة وأخرى متجددة وتعليمات واضحة... بعد التأكد من ما يجري، خاطبت الجمع : "ذَ شنهو؟"، "انتوم ما تكسحو؟" ثم بدأت أتوعدهم (بصوت عال) بتبعات قضائية لتصرفاتهم المجرمة قانونيا، محاولة مني لإرباك نشاطهم ريثما يوجد حل... فجأة، توقفت سيارة سوداء فاخرة وخرج منها سيد عرفته للوهلة الأولى طلب مني أن نتحدث جانبا، الشيء الذي استجبت له لصعوبة الموقف بالنسبة لي وتوسما لمخرج ما. قال لي الرجل لهجيا ما معناه : "هذا مجرد مكان لتوفير الشراب للناخبين..." ؛ رددت عليه بأنني لست بحاجة إلى معرفة ما يجري في المكان المذكور، لأنني بقيت داخله ما يكفي من الوقت للاطلاع على كل التفاصيل، حتى أنني اقتُرح علي التصويت ببطاقة مزورة. طلبت منه إغلاق مركز التزوير، وأمام إصراره على حجته، وضعت حدا للحديث غير المجدي بيننا.
عدت إلى المقر المركزي لحملة حزب "الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم" وقصصت حصيلة المآخذ على رفاقي داخل لجنة الإشراف، فاقترح علي أحد حكمائها أن أتفقد مكاتب "الملعب الأولمبي..." ووعدني بمتابعة كل الخروقات التي تطرقْت إليها، خاصة ما حدث في مكتب "سوسيم". يومها فهمت لأول مرة أنه في المجال السياسي وفي بلدنا آنذاك، لا يكفي فقط أن نكون على صواب لاسترجاع حقنا، لأن الخصم كان (في نفس الوقت) حكما غير آبه بأبجديات العدل والقانون.
(يتواصل، إن شاء الله)