ولدت التجربة الديمقراطية الموريتانية و نشأت في خضم ظروف صعبة، جعلتها حصيلة مواجهة لجملة من التحديات المتعددة و المتنوعة، منها ما هو تحدي سياسي متمثل في أزمة الحكم حيث تكررت الانقلابات العسكرية و محاولات تغيير النظام بالقوة، مما أثر على الاستقرار و أحال دون التناوب السلمي على السلطة، و منها ما هو تحدي أمني عندما عرفت موريتانيا أزمة حادة مع جارتها الجنوبية أوشكت تداعياتها أن تجر البلاد إلى حرب سنة 1990م، إضافة للأحداث الأليمة التي تلت محاولة الضباط الزنوج قلب نظام الحكم سنة 1990م، كما يبرز بجلى التحدي الاجتماعي المتمثل في الحضور القوي للقبلية في شؤون الدولة، كما يذكر التحدي الخارجي المتمثل في الأطماع الغربية الفرنسية عبر محاولات التأثير المستمر على السلطة في موريتانيا، زيادة على التحدي الاقتصادي الذي يتجلى في نقص الموارد المالية، مع تدني الانفاق العمومي على المؤسسات السياسية الرسمية و الغير رسمية، في مواجهة التحدي الفكري و الثقافي الذي يعكسه بجلاء غياب الثقافة الديمقراطية و انعدام تقاليد المشاركة السياسية و انخفاض مستوى الطلب على النظام الديمقراطي التعددي.
هذه التحديات مجتمعة واجهت التجربة الديمقراطية الموريتانية و جعلت مسارها يتذبذب صعودا و هبوطا، لكنها تميزت بالقدرة الكبيرة في الصمود و الاستمرار، رغم ما حصل من انقطاع في هذه التجربة سنوات 2003 و 2005 و 2008، إلا أن المسلسل الديمقراطي أستأنف سيره من جديد و هو دليل قاطع على قابلية التجربة الديمقراطية الموريتانية للنمو و التطور باستمرار في ظل جملة متغيرات بالغة الأهمية من تاريخ حركية الشعوب ضمن سياق المنتظم الإقليمي و الدولي.
حلقة الانتخابات المفصلية الأخيرة تشكل في جوهرها إطارا مواتيا للتنافس بين مختلف التشكيلات السياسية في البلد على أساس برامج متنوعة، مستوحاة في مجملها من اهتمامات و انشغالات المواطن باعتباره الغاية و الوسيلة. الأمر الذي حدا بحزب الإنصاف إلى الانحياز لقضايا الوطن و المواطن، عبر برنامج إنتخابي واقعي و موضوعي مستوحى في معظمه من برنامج تعهداتي الذي سبق و أن حاز ثقة الشعب الموريتاني في إنتخابات رئاسية تعددية شفافة و نزيهة سنة 2019م، تأكدت اليوم حلقاته بالتأييد من الشعب الموريتاني خلال إنتخابات 13 مايو الجاري، عبر إنتخاب 80 نائبا من حزب الإنصاف في الجولة الأولى في جميع أنحاء البلاد و كذلك جميع رؤساء المجالس الجهوية و ما يقارب من ثلثي رؤساء المجالس البلدية، في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار للانتخابات الرئاسية، مما يبشر بالخير لمعسكر الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، على بعد سنة من المأمورية الثانية.
هذا السياق المتجانس يعتبر رصيد لكافة القوى السياسية في البلد ضمن حدود الدولة المدنية الحديثة باعتبارها عصارة للفكر السياسي و الاجتماعي الحديث ذي المرجعية القومية الناضجة، الضامنة للولاء في تجانس و تناغم تكاملي و شمولي لتحقيق الصالح العام المشترك لدولة المواطنة، الحاضنة للجميع في كنف النظام المؤسساتي الديمقراطي بالتداول السلمي للسلطة، بقوة ملكية الإرادة الشعبية الحرة النابعة أساسا من القناعة بالموروث الوطني، بعيدا عن الحسابات الضيقة و ما تمليه من مواقف شاذة و خارجة على القيم المتحضرة المستوحاة من التقاليد و المسلكيات الديمقراطية.
على الجميع أن يدرك بالحكمة و الحنكة السياسية أن لغة الكراهية و عبارات التحريض و إثارة النعرات، حتى التهديد بالسلاح و التلويح بإثارة الفتن و المساس بالسلم الأهلي، مع المطالبة بتغيير نتائج الانتخابات بالعنف و العنف السياسي، هي أمور غريبة على مجتمعنا و حاضنته الدينية المعروفة بالتسامح و الألفة بين كافة مكونات شعبنا المسالم، ضمن ردود الفعل المتناقضة لأحزاب المعارضة التقليدية، بعد السقوط الحر الناجم عن التخلي عن قضايا الوطن و المواطن و ما نجم عنه من تخلي الشعب عن المعارضة و انحيازه لصالح النظام القائم، بإعتباره الملاذ الآمن لتطلعات الجماهير و الحصن المنيع لتحقيق مصالح الفئات المحرومة و المهمشة و المغبونة على مر عقود من الظلم و الظلامية.
لقد آن الأوان للنهوض جميعا من مستنقعات الحقد و الكراهية لنسمو أمام القيم الحضارية في التمدن و العصرنة التي تضمن العيش الكريم في كنف السكينة و الوقار مع الأمن و الاستقرار، السبيل الوحيد للتقدم و الإزدهار و الرفاه المشترك.