الشيخ محمد عبد الرحمن بن محمد السالم (ت. 1366 هـ):
هو قطب زمانه الشهير والولي الكامل والعالم النحرير، الشيخ محمد عبد الرحمن بن محمد السالم بن محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن أشفغ محمذن، التندغي، الحلي، وأمه فاطمة بنت مينحنا الجكنية.
كانت بداياته الدراسية الأولى في حيه وفي أخواله معدن العلم والعلماء تجكانت، ثم كانت دراسته المعمقة على ابن عمه العلامة أحمدّو بن محمذن بن البخاري (ت. 1366هـ)، وبعد أن أكمل تحصيله العلمي من علوم اللغة والشريعة ونال منهما مبتغاه، التفت إلى علوم التزكية ومراتب الإحسان، فصرف اهتمامه إلى ذلك المضمار، وصحب ابن عمه الصوفي الزاهد الشٌيخ سيدي بن ببكر بن المبارك (ت. 1295 هـ) المشتهر بالعلم والفضل والصلاح ونكران الذات والبعد عن الأضواء، فلزمه حتى أجازه في الطريقة القادرية البكائية كما أخذها عن شيخه العلامة الشهير الشيخ المصطفى بن الشيخ القاضي الإجيجبي ().
تفرغ الشيخ محمد عبد الرحمن لبث العلم ونشر التصوف وكان -كما قال الدكتور يحي بن البراء في موسوعته الفقهية- يعطي أوراد الطرق الصوفية الموجودة كلها من قادرية، وشاذلية، وتجانية، بحسب رغبة المريد، فانتشر سنده القادري خصوصا انتشار النار في الهشيم وكثر مريدوه والراغبون في طريقه بشكل منقطع النظير، حتى قيل إنه ما سمع به أحد وجاءه مختبرا ورجع من عنده دون الأخذ عنه.
ومن أشهر من أخذ عنه:
- ابنه الشيخ محمد السالم (ت. 1370 هـ)؛
- الشيخ سيد المختار بن عبد الجليل الحلي (ت. 1266 هـ)؛
- المصطفى محمدو بن بوري الحلي (ت. 1395 هـ) بالمدينة المنورة؛
- محمد سيديا بن السنهوري الحلي؛
- الشيخ سيديا بن الخراشي الحلي؛
- الشيخ المصطفى بن الخراشي الحلي؛
- الشيخ محمد عبد الله بن البشير التندغي المالكي؛
- الشيخ امود بن المختار بن سيدي البركني نسبا والتاگنيتي وطنا (ت. 1312هـ/ 1894م)؛
- الشيخ الصوفي ولد البان؛
- الشيخ سيدي بن أحمد خير التاگنيتي؛
- الشيخ بن ابوه من التاگنيتي؛
- الشيخ سيدي فال البركني النغماشي؛
- الطبيب أوفى بن محمد بن أوفى الألفغي (ت. 1300 هـ)؛
- الشيخ الداه بن زايدن الألفغي؛
- الشيخ سيد المختار بن أبي الجكني؛
- الشيخ محمد بن المحبوبي اليدالي؛
- الشيخ محمذن ولد سيد أحمد ولد بگي الديماني الفاضلي؛
- الشيخ محمد الأخضر التلمساني الجزائري؛
- الشيخ محمد الحسن بن الطالب أعمر البصادي؛
- الشيخ محمد الأمين بن الشيخ المعلوم البصادي (1301 – 1342) هـ؛
- الشيخ لمرابط عبد الفتاح بن سيدي محمد التركزي؛
- الشيخ محمد الملقب "باب خي" التندغي المالكي؛
- الشيخ الواثق ولد المختار التندغي المالكي ؛
- الشيخ أحمد بن أحمد ميلود التندغي الشگاني؛
- الشيخ محمد يحظيه بن العباس التندغي المالكي (ت. 1356 هـ)؛
- الشيخ ببكر بن جمال التندغي الشگاني.
كانت جُل مؤلفات الشيخ محمد عبد الرحمن في التصوف خاصة أو فيما يتصل به، ومن ذلك:
1- نظم الابتلاعية: أشهر مؤلفاته، وهي نظم طويل في إرشاد المريد إلى ما يضمن له الوصول والنجاح، يقول فيها:
ابْلعْ أخي الكـَوّارَ والبَهْموتا -- وقف بجوع، مـا رأيتَ قـوتا
ثـــم ابتلع مــواقــف القيامــةِ -- نيرانهما صـراطها والجنـةِ
وقف بجوع ثم قل هل من مزيد -- ترى مزيد الفرد في نعت العبيد
وليس ذا من نعت الانظراف -- في المحو بل للعكس نعت الشافي
وكونـه بعــدد الأبـواب -- معكوس كل باب غير غـــاب
وكونه تخلقـا وعملا -- في كل ما يكون كان أكملا
وكل وصف نتج العرفانا -- في شكلة البحرين زيد كانا
إن المقــام عدد المقام -- إذ ليس في المقام من مقام...
2- نظم النصيحة، موجه إلى التلاميذ، يقول في بعضه:
أوصيكم يا معشر التلام (يذ) -- وصية النصح اسمعوا كلامي
لا ترغبوا لا تبغضوا الطرائقا -- فتعتدوا عن الهدى أوابقا
واصدقوا الإله في المعامله -- وصيروا الحياة والممات له
وسلموا لله في الأمور -- وارعوه في المنهي والمأمور
واتخِّذوا ذكر الإله مألفا -- لله در من بذاك اتصفا
واتهموا في جهله النفوسا -- فالغش في مقصده مدسوسا
وجهره أنفع للقواسِي -- والسر أسلم من الوسواس...
3- تأليف في السهو؛
4- كتاب في الطب؛
5- أنظام أخرى متفرقة؛
6- ديوان شعر...
كانت أغلب أنظام الشيخ وأشعاره -فصيحة وحسانية- في التربية والتوجيه والإرشاد والوعظ ووصف الأحوال... يقول في بعضها:
هذا وإن سَربـخَ العرفــان -- خرِّيتُة الحيُّ الفقيه الفاني
يا خائضا في فهم ذي الأبيات -- بفتحات المشكلاتِ آت
لم يفهم الكلام في الأحوال -- إلا الذي بالحال كان حالي...
ويقول في المعرفة أيضا:
فالله لا يعرف بالقياس -- عِرفانه بما سواه قاسي
ولا بتوصيف ولا بدفتر -- ومن يقل بذا علي يفتري
إلا بذوق أو بمحو أوفنا -- إن أخلصوا وسبقت لهم عنا(ية)
ومع ذا لن يُعرف الإله -- فالله لا يَعرفه سواه
ويذكِّر هذا بقول العلامة لمرابط محمذن فال ابن متالي (ت. 1287 هـ):
وموقن وجود رب واعترف -- بالعجز عن إدراكه فقد عرف
وليس ذنب فوق ذنب الخائض -- بالفكر في ذات العلي الخافض
ما انفك حـــادث عن العلم به -- من أين للمخلــوق علم ربه!
غاية علم العلما ومنتـــهى -- إدراك أرباب العلــــوم والنهى
أن يعلموا أن لهذا الخلــق -- مخترعا أوجــــــده بالحـــــق
متـصفا بصفة الكمال -- منزها عـن ضدها المحال
إذ طـرق المعرفـة الكبار -- عـيان أو مثـال أو آثـار
فأول منعــــه الجـــبـار -- إذ قـال لا تدركه الأبـصار
والثاني أيضا لم يجز في النقل -- لقوله لـيس لـه مـن مثل
لم يبـق بعـد ذا سـوى آثـار -- قدرته في العالم السـيار
وفي الوصل والعرفان يقول الشيخ محمد عبد الرحمن أيضا:
والسير والترقي والعرفان -- والوصل في مذهبنا أركـان
والفضل في الدرج والتدلـي -- هِي ألف حال قد تكون للولي
في القرب من خالقنا الكريم -- ذا القرب في نعيمه المقيم
ويقول أيضا في شان صاحب الجذب:
من قال إن المُمْتحي يؤدب -- قد فاته فيما يقول الأصوب
لأن عقل ذي الفناء في غِطا -- وصاحب الحكم عليه غَلطا
وصاحب الفناء في العرفان -- بحسب رايه، فغير فان
ويقول في وصف حاله:
معرفة الإله صارت حالي -- تنظرها أوْصالِ في أوصالي
فمن سما إلى الكمال حاله -- وجد كــل مــا يــرى كمالـه
والله ليس معه ســــــــواه -- ومع كل جـــــوهر إلّا هوُ
ومن وصفه حاله أيضا:
هيج شوقيَ نعم وولعي -- كونك دائما معي معي معي
فما وهى نيليَ منك مطلبي -- لكنني بمطلبي لم أقنع
أنت أنيسي إن أكن منفردًا -- وأنـت أنسيَ بكل مجمع
أنت الذي بك قوام مهجتي -- وأنت مقعدي وأنت مضجعي
وأنت ملبسيَ حال ملبســي -- وأنت مشربي وأنت مرتعي
وليس لي فيما سواك مطلـبٌ -- يا من إليك ملجئي ومرجعـي
وله في الذكر:
ذكر الإله يصلح الفؤادا -- وقد ينحّي الزيغ والإبعادا
وليس في حب السّوى إفادا -- إن المريد عبدُ من أرادا
ويقول في المجاهدة:
واقطع القاطع عن وصل الحبيب -- والزم الباب وعنه لا تغيب
وكدر الحياة دون ما تريد -- فالعيش دون ما تريد لا يفيد
ومن وصاياه لمريديه أيضا قوله:
الشيخَ جنبه وكن مجتهـدا -- متى تراه خـارجا متحدا
والبيتَ جنبه مخافة الـردى -- والحذرَ الحذر منه أبدا
إلا إذا منك القدوم قد بـدا -- من بعد إذن أو رسول أو ندا
وكن إذا حضرته متئـدا -- والصوتَ دعه دون صوته مدى
لقوله عز وجل سرمـدا -- لا تدخلوا بيت النبي أحمـدا
وله أيضا في الحجاب:
لا طيب للعيش مع الحجاب -- إن الحجاب هامة العذاب
وليس مع زواله مـن نكد -- طوبى لمن شاهد سر الأحد
إن الحجاب يا أخي هو العذاب -- وأي عاقل يرى ذاك صواب!
وكما طوّع الشيخ ملكته في فصيح الشعر لخدمة رسالته التي جعلها نصب عينيه ومنحها جل وقته فقد وظّف أيضا ملكته في الشعر الحساني (لغنَ) لذات الغرض.
يقول في بحر الوصول:
بَحْرْ الْوُصولْ فيهْ عَكْرَ -- وامْواجُو مِتْلاطْمَ تجْرِ
أوگف الْفَوْگ رِيحْ منْ الوَزْرَ -- طِيحْ افْ لِغْريگ لا اتْشَفْرِ
عسْ لا ادَّوْرُو ابْذيكْ لخْرَ -- ذيكْ لخْرَ عَنْها مسَگرِ.
ويقول فيه أيضا:
الوصول اﮔفال اتمرزيـه -- مــا يفتحهم مـــريد إديـــد
لهوُ واوساخ واطْمازيه -- ما يمسحمهم شيخ امن ابعيد
ومنه قوله:
راجِلْ شَبّاشْ -- بَالله ؤراهْ
نِكْريهْ ابَّاشْ -- ماطارْ اغْراهْ
ويقول محذرا من حرق المراحل واستعجال التصدر:
المشيخَ حلْ الشكلات -- واستلميد اخلاص التوحيد
والباس المشيخَ ما فات -- امَكَّنْ من بل استلميـد
كذبَ ماهِ گد الكذبات -- وافطن عنها ضلال ابعيـد
وكان الإمام الأكبر بداه بن البصيري (ت. 2009 م) رحمه الله كثيرا ما يتمثل بهذا الكاف ويبدي إعجابه به:
مارتْ عنِّ مانِ منكمْ -- ذانَ منكمْ فِيكُمْ سَاعِ
انْعاملكم راﮔدْ عنكم -- وانعاملْ مــلانَ واعِ
ويقول أيضا:
ابروﮔ معطاك اتْسلع -- والكاذب اعليه التوبَ
واشميط بردلِّ اطمع -- بشميط ربعتْ لـﮔلوبَ
وفي الأذكار بقول:
يلِّ عمرك فاتْ افشرابَ – وافْوَكْلَ، دونْ فتحْ اطريگ
گلبك يلخُو گلب انبـابَ -- واذكارك يالصيد انهيگ
ويقول أيضا:
احجابِ للِّ نرجاه -- واحجاب من شِ نخشاه
لا إله إلا اللـــــــه -- محمــــــــدْ رسول الله
ويقول أيضا:
ابلد ما فيه -- ذكر الإله
الله يخليه -- ابلد مخْلاه
كان الشيخ محمد عبد الرحمن آية في التواضع، بعيدا من الكبر وتضخم الأنا، يخدم نفسه ويمشي في حاجة أهله، ويسير في مصالح الناس أبعدهم وأقربهم، رغم كثرة تلاميذه ووفرة عدد مريديه ومن يقبِّلون التراب الذي يسير عليه، ومن تواضعه ما أخبرني به سِبطه الإمام الفقيه أحمد محمود بن تندغ حفظه الله، قال: سمعت سيد القوم المصطفى "الدّهان" بن محمد علي يحدث والدتي تعل بنت الشيخ محمد السالم بن الشيخ محمد عبد الرحمن، يقول حضرت وأنا غلام يافع إصلاح بئر ذات الشمس "انتوفكت"، فجاء جدكِ الشيخ محمد عبد الرحمن ودخل البئر بنفسه وأخذ الناس يرسلون إليه الدّليّ وهو يعمل في قعر البئر، وكانوا إذا أرسلوا الدلو صاح به صائحهم: هل وصل ؟ يعني الدلو، فيجيبهم من الأعماق: "أهيه وصل، وان ما ايجين ش ما أوصل"، يقول الدهان رحمه الله: كم تمنيت -بعد أن أدركت مغزى كلام الشيخ- أن أكون قد أخذت عنه في ذلك الوقت...
وذات يوم حزين من أيام ذات الشمس، كسفت شمس "انتوفكت" الساطعة وتوارت تحت الرمال مخلفة حزنا وألما عبّر عنه الشيخ محمد الأمين بن الشيخ المعلوم البصادي بقوله:
الشمس يا أهل (ذات الشمس) قد كسفت -- وبعدها البدر ذا من أعظم الضـرر
الشيخ شمس الهدى وبنته قمر -- صلوا لأجل كسوف الشمس والقمر
وُوري الشيخ الثرى في مقبرة "انتوفكت" التاريخية، عام "شلس" الموافق لـعام (1330 هـ/ 1912م)، لتطوى صفحة مشرقة من صفحات العلم والفضل والصلاح والاستقامة والبذل والإنفاق ونفع المسلمين، خلد هذا التاريخ الطبيب أوفى بن محمد بن أوفى بقوله:
في "شلس" من هجرة الممدوحِ -- توفي الغوث أبو الفتوح
محمد نجل محمدِ السالم -- ما في الدنى كعلمه من عالم...
تغمد الله الشيخ بواسع رحمته وبارك في آل بيته وعترته الطيبة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.