حقيقة لا أعرف من أين أبد ولا ما أقول عن رجل فيه الكثير مما يقال.
حصل لي شرف التعرف عن قرب على العميد محمد فال ولد عمير أبي، إبان إدارته الرشيدة للوكالة الموريتانية للأنباء، وعملت تحت إدارته المباشرة مع كوكبة من الشباب على تأسيس مشروع قطاع الإعلام متعدد الوسائط.
لم يكن ولد عمير مديرا فحسب؛ بل كان لنا أبا حنونا وأخا ودودا وصديقا مرحا، وأستاذا معلما، كان عنوانا للتفاني والانفتاح، كان حريصا على إقناع طاقمه بأفكاره بدل إملائها عليهم.
لقد فتح لي الراحل قلبه؛ وكان يُجلسني بجانبه، ويأخذ رأيي في مجالس من تفوق تجاربهم المهنية حياتي بأكملها، وكان دائماً يحاورني في كل القضايا الوطنية التي أتحدث عنها أمامه وعلى الانترنت، ويرد بلطف على مداخلاتي الجريئة إن لم أقل المتهورة أثناء اجتماعات العمل بالقول (محمد الأمين أنا فاهم ذاك الهامك وهو الهامني؛ يغير نتيجة فارق العمر انت هامك تمسح الطاولة، وأنا هامن انعدل ذا الل اندور ما انترت شي من أيد حد) وحرص على حضور حفل تخرجي رغم تزامنه مع التعليق على نتائج اجتماع مجلس الوزراء بالوكالة، وما يترتب على ذلك من ترتيبات.
كان الرجل مؤمنا بالدولة الموريتانية، واعيا بالتحديات التي تواجهها حريصا على وحدتها واستقرارها، ويسعى دائما إظهار ثرائها الثقافي وتكريس تنوعها الحضاري، في كل المخرجات الإعلامية التي ينتجها.
اشتهر الأستاذ محمد فال ولد عمير، بكونه أحد رواد الصحافة المستقلة في موريتانيا، حيث أصدر مع صديقه الكاتب امبارك بيروك، جريدة "موريتاني دمين" كأول جريدة مستقلة في موريتانيا عام 1988، كما كان يكب في جريدة الشعب الرسمية، وناضل كثيرا من أجل إصدار قانون حرية الصحافة، وأسس جريدة "البيان"؛ وكان أحد مؤسسي جريدة "القلم" الشهيرتين، وفي العام 1996 أنشأ جريدة "لا تريبين".
كما أدار باقتدار قناة الساحل بعد تحرير الفضاء السمعي والبصري، لكنه أيضا كان منقذا للإعلام العمومي، وأبا روحيا للاتصال الحكومي.
ففور تعيينه على الوكالة الموريتانية للأنباء، أواخر 2019 عمل ولد عمير بصمت ودون ضجيج على انتشال الوكالة من المستنقع الآسن الذي وجدها فيه.
فعلى المستوى العمراني، يوم تعيين ولد عمير على رأس الوكالة - أكرمكم الله - لا تمتلك مراحيض بمقرها المركزي في العاصمة نواكشوط، أما المظهر الخارجي للمؤسسة والمكاتب الجهوية فترف لا يحلم به أكثر الطامحين بالمؤسسة وهم ليسوا كثراً حينئذ.
وعلى المستوى المعنوي لاتجد الوكالة جل الأخبار الرسمية إلا من بعض وسائل الإعلام المحلية التي أصبح يشار إلى بعضها بالبنان كمؤسسات شبه رسمية مرشحة لسحب البساط من تحت الوكالة، رغم تربعها على هرم المنظومة الإعلامية في البلد، بوصفها لسان حال الحكومة ومصدر المعلومة الموريتانية الأول، أما احتكار المعلومة أو توزيعها فحلم بعيد المنال كالحضور الإلكتروني الفعال، ولا يحق للقائمين على المؤسسة التطلع إليه أحرى أن تكون جزءا من صياغة الاستراتيجية الإعلامية للبلد.
وعلى المستوى اللوجستي، لا تمتلك المؤسسة غير النزر اليسير من السيارات، والأجهزة الثابتة على المستوى المركزي في نواكشوط، وموقعا إلكترونيا أكل عليه الدهر وشرب، وحالها لا يسر صديقا ولا يغيظ عدوا.
وعلى المستوى البشري يعاني العاملون في المؤسسة من الاستصغار والاستحقار في جل الدوائر الحكومية التي "يتلصصون فيها" على فتات الأخبار والمال وفضلات الموائد، بفعل الحاجة المادية والهشاشة المؤسسة.
وبعد فترة وجيزة من توليه إدارة المؤسسة أصبحت تمتلك مقرا مركزيا محترما بواجهة من أحسن واجهات المؤسسات العمومية في البلد، وبحديقة أمامية وخلفية لافتة، إضافة إلى مكاتب مستقلة في العديد من عواصم ولايات الوطن، وبهوية عمرانية موحدة.
كما أصبحت الوكالة المصدر الأول والموثوق للمعلومة الرسمية للدولة الموريتانية، واستعادت ثقتها ومكانها البرتكولية لدى مؤسسات الدولة الموريتانية وشركائها المحليين والدوليين كقاطرة لتطوير إعلام السيادة الوطنية.
وباتت تمتلك موقعا إلكترونيًا بهوية بصرية جيدة وثلاث واجهات (العربية، الفرنسية، الإنجليزية) ومجلة شهرية متخصصة، بالإضافة إلى حضور فعال على مواقع التواصل الاجتماعي، تمثل في منصة على الفيسبوك من الأكثر متابعة على المستوى الوطني، وأخرى على اليوتيوب وحسابات على تويتر وانستغرام في تطور مستمر.
كما تمكنت الوكالة من إبرام عدة اتفاقيات مع بعض الهيئات الإعلامية الدولية، إضافة إلى تجهيزات جيدة على المستوى المركزي ومكاتبها في الداخل، وأصبحت تحتضن المؤتمر الصحفي الأسبوعي للحكومة في تجسيد واضح لإعلام السيادة.
وحظيت الوكالة تحت إدارة ولد عمير باعتماد نظام أساسي لها هو الأول منذ نشأتها عام 1971، يحسب له القفز برواتب العاملين فيها من الضعف إلى الضعفين، وضبط نظام الترقيات والتقدم، كما كان أسوة حسنة لغيرها من مؤسسات الإعلام العمومي (التلفزة الموريتانية وإذاعة موريتانيا) ناهيك عن زيادة معتبرة لرواتب العمال غير الدائمين - الذين وجدهم يطالبون المؤسسة بمستحقات سبعة أشهر - ونقلت رواتبهم من 40 و50 ألف أوقية قديمة إلى 100 ألف كحد أدني.
ويحسب لولد عمر، ردم الهوة بين الدول مع وسائط التواصل الاجتماعي، حيث كانت مبادرته بفتح منصات للوكالة الموريتانية للأنباء، على هذه المواقع محفزا لكل القطاعات الوزارية والمؤسسات العمومية لمخاطبة الجمهور باللغة التي يفهمها، وعبر الوسائل التي يريد؛ كما كان فتحا مبينا للإعلاميين وفتح لهم مصادر متنوعة للحصول على المعلومة.
كما كان له دور بارز في الإدارة الإعلامية لأزمة كورونا، حيث أشار إلى صديقه وزير الصحة الأسبق محمد نذير ولد حامد، بضرورة تقديم إيجاز يومي عن تطور الوباء أو تنظيم نقطة صحفية لذلك؛ وهو ما تم بالفعل؛ وقد سام كما أراد رحم الله، في إعادة الاعتبار والثقة للمعلومة الرسمية، وكان لاقتراحه إسناد مهمة توزيع المواد الغذائية، على المواطنين خلال أزمة كورونا، إلى الجيش الوطني أثر إيجابي بالغ على الدولة والمجتمع؛ وساهم إلى حد كبير في تعزيز صلة المواطن بالدولة (الدولة التي لا تريد من مواطنيها جزاء ولا شكورا، لا تريد أصواتا ولا ولاءات) والتي كادت تنمحي من أدبيات الشعب، إضافة إلى وأد الضغينة التي تبث الأيديولوجيات في نفوس المواطنين ضد الجيش الوطني باعتباره المسؤول الأوحد عن تقهقر الدولة الوطنية وتدني الخدمات وتردي الأوضاع المعيشية.
لقد لقيت الراحل مرتين خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، كان آخرها وفاءً بعهد انتزه مني، رحمه الله، خلال اللقاء الذي سبقه بمعاودة زيارته في أقرب وقت، وكان بصحبتي أخي وصديقي زيدان الحضرامي، وقد قضينا معه وقتا ممتعا ومفيدا تطرقنا خلاله للكثير من المواضيع المهمة، وودعني، عليه شآبيب الرحمة، بعتاب "متمحصر" لم يكن يخطر لي على بال حيث قال (أرانِ ذاك الل اخلك فينَ ما حسيت بيه) فقلت بعفوية (إياك خير اخلگ فيكم ما حسيت أنا به) ليقاطعني رحمه الله محاولا إفهامي الأمر بقدر من "اتگيدي" "أنا؛ وكنت ندايگ امع افلان عنو ما خبرن باخلاگت" فقلت بسذاجة دور انتلفن لافلان انسول (وكنت لولا حنكته سأسأل عن ما لا يسأل عنه الصغير الكبير) ليقول (سول عنو زيدان).
رحم الله ولد عمير وأسكنه فسيح جناته وإنا لله وإنا إليه راجعون
محمد الأمين سيدي بوبكر
صحفي موريتاني مهتم بالإعلام التفاعلي، حاصل على شهادة لصانص في الإعلام والاتصال من المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، أعمل في الوكالة الموريتانية للأنباء وآرائي لاتعبر عنها بالضرورة