
عاد موضوع شركة BIS TP ومنظمة “الشفافية الشاملة” إلى الواجهة من جديد، في مشهد يكشف بوضوح أن القضية لم تعد مجرد نقاش فني حول مشروع إنشائي، بل باتت موضوعًا مكشوف الأهداف والمقاصد، تُدار حوله سرديات جاهزة افتقرت منذ بدايتها لأبسط شروط المهنية والحياد.
فالمنظمة تحدثت عن “خبرة فنية” تزعم – وفق تعبيرها – أن ما يقارب 70% من المنشآت المائية المنفذة على مجاري الأودية لم يُنجز، ثم ذهبت أبعد حين ادعت أن نسبة عدم التنفيذ تصل إلى 90%، وهي أرقام لا تستند إلى أي أدلة ميدانية يمكن الركون إليها أو معاملتها كتقييم جدي لمشروع بهذا الحجم.
إن أي خبرة هندسية محترفة تُبنى أولًا على المعاينة، والمقاسات، والمقارنات المنهجية بين الدراسة الأصلية وما تم تنفيذه، بينما لم تقدم المنظمة سوى ادعاءات فضفاضة ومواد إنشائية تعوزها الدقة، ما يجعل نسبة 90% نفسها كافية لإسقاط مصداقية التقرير، لأنها ببساطة نسبة لا يمكن أن تصمد أمام أي تثبّت علمي أو مهني.
وزاد رئيس المنظمة الأمر غموضًا حين تحدث عن “صور بالأقمار الاصطناعية” تُظهر الفوارق بين وضعية المشروع عام 2019 وعام 2024، مدعيًا أن الأشغال لم تبدأ إلا بعد نشر المنظمة لتقريرها.
غير أن هذه الرواية نفسها تطرح سؤالًا جوهريًا: إذا كانت الصورة المزعومة بهذا الوضوح، فلماذا لم تُنشر طيلة السنوات الماضية؟ ولماذا لم يُفتح الملف إلا العام الماضي؟ إن التلاعب بزمن الأحداث يجعل الادعاء أقرب إلى محاولة تركيب صورة مسبقة لخدمة أهداف بعينها، بدل تقديم مادة رقابية جديرة بالاحترام.
كما أن ما أطلقوا عليه “خبرة فنية” ارتكب أخطاء جسيمة في مقاربة المشروع، بدءًا من تجاهل الطريق الترابي البالغ 39 كيلومترًا، مرورًا بالاعتماد على محاضر جاهزة، ووصولًا إلى غياب أي معاينة ميدانية حقيقية. فخبرة لا تعتمد على وجود فريق هندسي على الأرض لا يمكن اعتبارها خبرة، بل تجميعًا انتقائيًا لمواد مختلطة تُقدَّم على أنها أدلة قاطعة، وهي في الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك.
وتتعزز الشكوك أكثر حين يتبين أن الأشخاص الذين ظهرت شهاداتهم في فيديوهات المنظمة، أنفسهم خرجوا لاحقًا في مقابلات مع موقع جهوي معتمد، نافين صحة ما نُسب إليهم، ومؤكدين أن المنظمة غالطتهم واستغلت حاجتهم وصورتهم دون علمهم بحقيقة الجهة التي تتحدث إليهم. وقد أوضح هؤلاء السكان أن أي مواطن إذا ظن أن لجنة حكومية جاءت لمعرفة احتياجاته، فسيعدد حاجاته كاملة، وهو ما استغلته المنظمة لإظهار صورة مغايرة للواقع.
إن هذا الاعتراف وحده يكفي لكشف حجم الخلل الأخلاقي والمنهجي الذي بُني عليه التقرير.
ويظل من المهم التذكير بأن مشروع BIS TP لم يكن صفقة غامضة ولا اتفاقًا خارج القانون، بل جاء نتيجة مناقصة دولية شفافة شاركت فيها شركات متعددة، وفازت بها الشركة وفقًا للمعايير القانونية والفنية المعمول بها. ومن ثم فإن محاولة إلباس المشروع ثوب الفشل أو التلاعب، تصطدم مباشرة بالوثائق الرسمية ومسار الإجراءات الواضح الذي لا لبس فيه.
إن مجمل ما أثير ويُثار حول هذا الملف يظهر بجلاء أن القضية لم تُبنَ على أسس فنية خالصة، بل على سرديات مجتزأة تستبطن نوايا واضحة، لا تخفى على أي متابع حصيف.
فالتقرير اهتزت دعائمه بسقوط شهاداته، واهتزت حياديته باعتماده على مواد غير محققة، واهتزت قيمته المهنية بتجاهله معطيات أساسية في المشروع. وفي المقابل، يظل المشروع نفسه قائمًا على وثائق رسمية، ونتيجة مناقصة دولية، ومسار قانوني مكتمل.
وهكذا تتبدى الصورة كاملة:
استهداف مغطى بشعارات الرقابة، لكنه مكشوف في جوهره، يسعى إلى صناعة أزمة حيث لا أزمة، وإرباك الرأي العام حيث توجد حقائق واضحة يمكن الرجوع إليها.
وما يبقى في النهاية هو أن الحقيقة لا تُقاس برفع الشعارات، ولا تُبنى على فيديوهات منتقاة، بل يثبتها الميدان، وتؤكدها الخبرة المستقلة، ويكشفها الزمن مهما طال.
البو أحمد سالم
كاتب صحفي


.gif)
.png)
.jpg)
.gif)

.jpg)

.jpg)