
الوئام الوطني : في حدث وطني بالغ الدلالة، يمكن اعتباره منعطفا حاسما في مسار السياسات العمومية للدولة الموريتانية، يبرز مشروع سقاية مدينة كيفه من النهر بوصفه إنجازا تاريخيا غير مسبوق، لا من حيث حجمه الفني فحسب، بل من حيث عمقه الاجتماعي والاقتصادي والرمزي.
فهذا المشروع العملاق لا يختزل في كونه استجابة لحاجة خدمية ملحّة، وإنما يشكّل ترجمة عملية لإرادة سياسية حسمت خيارها لصالح الحلول الجذرية بعد عقود من المعاناة والانتظار.
لقد ظلت مدينة كيفه، ثاني أكبر تجمع حضري في البلاد بعد العاصمة نواكشوط، ومعها مئات القرى والآدوابه التابعة لها، تعاني من أزمة عطش مزمنة، اتسمت بتذبذب الإمدادات وارتفاع كلفة الحصول على الماء، سواء عبر الصهاريج أو الآبار المحدودة الإنتاجية.
وعلى الرغم من تعاقب الحكومات والبرامج، بقيت الحلول جزئية وموسمية، عاجزة عن مواكبة النمو الديمغرافي المتسارع والتوسع العمراني، مما جعل أزمة الماء عنوانا دائما لمعاناة السكان، ومصدرا للضغط الاجتماعي والاقتصادي.
اليوم، يأتي مشروع جرّ المياه من النهر ليكسر هذه الحلقة المفرغة، ويمثل انتقالا نوعيا من منطق التدبير المؤقت إلى منطق التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى.
فالمصدر المائي الدائم، مقارنة بالمياه الجوفية الهشة، يمنح المشروع بعدا مستداما، ويؤسس لأمن مائي حقيقي لمدينة كيفه ومحيطها، بما يشمل القرى والآدوابه التي طالما ظلت خارج حسابات المشاريع الكبرى.
لقد سجّل التاريخ أن فخامة رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، هو أول رئيس يضع الحجر الأساس لمشروع بهذا الحجم والرهان في منطقة الداخل، مستهدفا إنهاء معاناة إنسانية امتدت لعشرات السنين. ولا تكمن أهمية هذه الخطوة في بعدها التنفيذي فقط، بل في رمزيتها السياسية، إذ تعكس قناعة راسخة بأن الحق في الماء حق سيادي، وأن التنمية المتوازنة لا يمكن أن تتحقق دون إنصاف المدن الداخلية وربطها بالبنى التحتية الاستراتيجية.
ولا تقتصر آثار المشروع على توفير الماء الصالح للشرب، بل تمتد لتشمل تحسين الظروف الصحية، والحد من الأمراض المرتبطة بندرة المياه، وتخفيف الأعباء المالية عن الأسر، خاصة الفئات الهشة.
كما يفتح المشروع آفاقا جديدة للاستثمار المحلي، ويعزز فرص خلق أنشطة اقتصادية مرتبطة بالخدمات والزراعة الحضرية والصناعات الصغيرة، فضلا عن دوره في تثبيت السكان والحد من الهجرة الداخلية نحو العاصمة.
ويمثل ربط مدينة كيفه بالنهر خطوة متقدمة في تجسيد العدالة المجالية، ويؤكد أن الدولة ماضية في إعادة توزيع ثمار التنمية على مختلف جهات الوطن.
فالمشروع يعيد الاعتبار للداخل بوصفه شريكا في التنمية لا مجرد متلق للوعود، ويبعث برسالة طمأنة مفادها أن التهميش التاريخي يمكن تجاوزه حين تتوفر الرؤية والجرأة في اتخاذ القرار.
إن مشروع سقاية مدينة كيفه من النهر هو أكثر من بنية تحتية، إنه وعد تحقق، وحلم جماعي خرج من دائرة الانتظار إلى حيز الإنجاز. وهو إنجاز تاريخي غير مسبوق، سيظل شاهدا على مرحلة قررت فيها الدولة الموريتانية مواجهة أحد أعقد تحدياتها التنموية بإرادة سياسية صادقة ورؤية استراتيجية شاملة، واضعة الإنسان وكرامته في صدارة الأولويات.
إسماعيل ولد الرباني :
*- المدير الناشر لوكالة الوئام الوطني للأنباء


.gif)
.png)
.jpg)
.gif)

.jpg)

.jpg)