الليبرالي رجل مليونير، كان ينعم بخيرات ابن عمه رئيس الدولة، كان يظهر عصامية لا مثيل لها، كان وزيرا في حكومات قبل مجيء قريبه إلى السلطة، توجه إليه خاطبه من برجه العاجي، و تركه يموج، فهم الليبرالي أنه هناك فرق بين نظام العسكر و النظام المدني.
قال في نفسه لن أسقط في الفخ، سوف أعتزله و لن أترك له فرصة الشماتة بي. اللهم إلا إذا أعاد لي الاعتبار.
خرج مغاضبا و ظل يموج مدة لا تتجاوز سنتين، وبعدها علم أن الرئيس يريد أن يعوضه عن تلك السنون، و جاء إليه مهرولا، راجيا أن يقدم له ما يليق بمقامه. نظر إليه نظرة كبرياء، و قال أنت نريد منك أن ترسخ الديمقراطية في مدينتك التي تنتمي إليها، و نريد من خلالك أن نرد الاعتبار إلى أهلنا.
قال الليبرالي، و هو لا يعرف بعد ما المقصود بما قاله الرئيس : أنا رهن إشارتكم سيدي الرئيس.
تبسم الرئيس و قال شكرا، سوف تترشح لبلديتكم، و ستصبح أنت العمدة الآمر الناهي في المنطقة، بذلك نضمن ولاء القبائل هناك، و نضمن كذلك أن نكون نحن في المقدمة و أن تكون أنت رسميا من يستقبلني هناك عند زيارتي و بالتالي لا يقال انه لا مكانة لنا.
عض الليبرالي اصبعه و قال في نفسه لقد قلت للرجل أني رهن إشارته و لن أتراجع عما قلت، فكر قليلا و قال ليست هناك مشكلة سيدي الرئيس، أنا موافق على ذلك، و طرح شروطه لتقبل كلها، و كلها تصب طبعا في مصالحه الضيقة.
أصبح الليبرالي عمدة و أصبح يقال شيخ القبيلة أصبح عمدة، و لم يعد ذلك المترنح الضائع.
لم يفهم الليبرالي ما يخطط له الداهية إبن عمه ذاك، و راح في سبيل حاله يكرر أنا عمدتكم .. أنا عمدتكم.
بعد ذلك بفترة بدأت تنكشف للزعيم القبلي خدعة ابن العم، فقد بدأ يصغر في عيون الناس و بدأ يواجه مصاعب بائعات الخضر و الخبز و سلقلق و "وكافة" حوانيت السقط في السوق القديم المهترئ.
حلت البلديات و بدأت التعددية الحزبية، فأهداه حزب "كرتابل"، الليبرالي يبدو أنك لم تكن راضيا عن منصب العمدة، يقول الرئيس مخاطبا الليبرالي، تفضل انت الآن أصبحت "رئيسا"، ستصبح رئيس حزب سياسي، لك كامل الحرية في ممارسة السياسة و الوقوف حيث تشاء، خذ أيضا رخص الصيد و أبدأ نشاطك و لا تتوقف عن القيام بما تريد في إطار ما أسمح لك به، نحن نريد التخلص من القبلية. كان ذلك الرئيس مخاطبا الليبرالي الحزين. و بدأ استرجاع ذاكرته الليبرالية القديمة، و أصبح يعارض القبيلة و يرفض لقاء أبنائها و يكتفي فقط بالمقربين منه اجتماعيا من أبناء عمومته القريبين منه جدا.
ظن الليبرالي أن الرئيس يحارب القبلية على كل الأصعدة و بالتالي بات يتساءل عن ما فعله الرئيس في المناطق الأخرى ليعرف كيف تحارب القبلية.
فجأة انكشفت الخدعة الثانية أمام الليبرالي و فهم أن الرئيس غالطه، فقد كان يريد أن يتخلص منه و من مكانته الاجتماعية المرموقة رويدا رويدا، و قد جعل رجال الأعمال من المقربين منه أكثر حظوة و اكبر مكانة عند الرئيس.
مسكين الليبرالي، فهم الأمور معكوسة و انطوت عليه الحيلة. بدأ يتذكر ما كان يفكر فيه منذ اللقاء الأول، و عادت إليه عادة التردد و الشك، و ما لبث أن أصبح الشك يقينا، و علم أن مثل حزبه ذاك مجرد حزب من "أشراويط" و أنه لا قيمة أبدا له.
لم يستطع الليبرالي أن يتراجع عن مواقفه بسبب المشاريع و الالتزامات و "البوهات" و غيرها من الأمور التي أصبح مرتبطا بها بشكل مباشر نظرا لقبوله بتلك الصفقات المشبوهة التي أقحمه فيها إبن عمه الرئيس.
ذات صباح علم الليبرالي أن الرئيس تم الانقلاب عليه، و أن نظاما جديدا سيحكم البلد مدة سنتين و أنه سينظم انتخابات برلمانية و رئاسية، فكر مليا و ذهب إلى القبيلة يطلب دعمها ليترشح نائبا برلمانيا، لكنه فوجئ بمعارضة شديدة لدى مقربي الرئيس السابق، إبن عمه، خرج الليبرالي من السباق أمام شاب يافع لم يكن يتصور أن يتجرأ على الترشح امامه أحرى أن يهزمه. زادت قناعة الليبرالي أن الحزب الذي كان يمتلكه لا قيمة له.
عاد أدراجه خائبا، و غاب عن الأنظار و ترك لرجال الأعمال و الشاب اليافع إدارة الشؤون السياسية و لم يتمكن من الوصول إلى منصب نائب، و لم يعد ذاك الشيخ القبلي المهاب، فأصبح يمر على المارة فلا يحدثوه و يوقف سيارته فيتجمهر الناس من حوله و حين يوقف إبن عمه الآخر اليافع سيارته و هو من اثرى أثرياء البلد، يهرول الناس خلفه و يتركون الليبرالي "المسكين" في مكان ذاك، لينزعج و يطلب من السائق الانصراف به من المكان.
جاء نظام آخر منتخب، و بحكم علاقته الشخصية بالرئيس الجديد، أصبحت يستدعيه و يستشيره و عين له إبنه "النجيب" في منصب رفيع، في وزارة الاقتصاد آنذاك.
و لكن الليبرالي لم ينعم كثيرا بتلك المكانة، فعلى ما يبدوا استشارات الليبرالي أودت صاحبه في الدرك الأسفل من القهر السياسي، فأنقلب عقيد على صاحب الليبرالي، و أستدعت إدارة الأمن الليبرالي طلبت منه الوقوف إلى جانب الإنقلاب، و لم يكن من استدعاه سوى ابن عم آخر يافع بالنسبة له.
الليبرالي مسكين، ارتكب خطأ سيعرف لاحقا مدى خطورته، رفض دعم الانقلاب، و ذاك عمل نبيل، لكنه لم يعلن رفضه له، بل طلب أن يعتزل الشأن العام و السياسة بالخصوص، خرج من مكتب ابن عمه في إدارة الأمن مكسور الجناح متأسفا على سقوط صديقه، و على إهانة أبناء العمومة له من رئيس سابق، و مدير أمن الدولة السابق، و مدير الأمن السابق، كلهم أهانوه و كلهم رحلوا عن مناصبهم.
الليبرالي لم يرد البحث كثيرا عن الأسباب، لكنه فهم أن مكانته لم تعد موجودة، لكن الإنقلابي لم ينسى لالليبرالي رفضه دعم الانقلاب، قام العقيد المنزعج كثيرا و أقال إبنه و من ثم صادر رخص الصيد التي كانت بحوزته، و أغلق شركاته على كل الموانئ و في كافة المدن.
جلس الليبرالي في المنزل يفكر مليا في أسباب كل هذا. لكنه لم يجد سببا مقنعا، لأنه يفكر من منظور المثقف الحالم، لا المثقف الذي يعيش الواقع و يفهمه.
جاءت انتخابات و جاءت أخرى، و من ثم تم سحب ترخيص حزب الليبرالي بسبب عدم حصوله على 1 في المائة من الناخبين. حتى الحزب لم يعد موجودا.
الليبرالي المقهور علم بترشح صديق الجنرال الذي اقعده على "بيده" ففكر مليا و قال : هذه فرصتي، سأعود إلى الواجهة و أدعم الجنرال الجديد لكي أعود إلى مكانتي التي كانت عندي.
مسكين الليبرالي لا يعرف أن الجنرال الجديد إنما هو نسخة مطورة من صاحبه الذي كان قبله، الليبرالي لم يفهم شيئا يوما و لم يعرف مخاطر ما يقوم به.
الليبرالي خسر منصب النائب، و خسر الحزب، و فجأة و عند إعلانه دعم الجنرال الجديد، تفاجئ بوابل من الانتقادات التي لا حدود لها، مسكين الليبرالي، لابد له من دفع الثمن دائما، متى يقبض مقابل ما دفع من أثمان.
الليبرالي كان قد عارض النظام و جعل من نفسه شخصا معارضا للجنرال، لكنه اليوم يوالي جنرالا آخر لا بد له من نصيب مما يؤكل و يشتهى من أموال الشعب المسكين.
ارتمى راكعا أمام الجنرال الجديد، و أثنى كثيرا على الجنرال المنصرف، و أكد ولاءه و عدمه التامين و اللامشروطين للجنرال الجديد، و قبل بشكل نهائي فكرة دعم الجنرال، بعد 38 و سنة من مناهضة العسكر و رفض حكمهم للبلاد. كما يقال (صام و افطر على جراده).
قال الجنرال الجديد، لا أثق في الليبرالي هذا وأصدقاءه رجال الأعمال، تصوروا الليبرالي هو أكثر من دافع عن الجنرال الجديد، حتى أن دفاعه عنه كان أفضل من مرافعات "زيدان"
الليبرالي لم يفهم ما الذي يجري، و لكنه بعد ذلك بأيام تفاجأ بشاب يافع آخر يعلن فسخ مشيخته، لم يعد الليبرالي مقبولا لا شكلا و لا مضمونا.
الليبرالي انتهى، قرر القضاء على حياته بشكل نهائي، و انتحر، أعدم نفسه شنقا عند باب الجنرال، و قال: إني تبت الآن و أنا من "المتغزونين".
رحم الله الليبرالي ما أغباه و ما أجشعه.
ذ/ محمد فاضل الهادي.