قال الإمام داوود الظاهري: قال لي إسحاق بن راهويه: ذهبتُ أنا وأحمد بن حنبل إلى الشافعي بمكة، فسألتُه عن أشياءَ، فوجدتُه فصيحا حسَن الأدب، فلما فارقناه، أعلمنى جماعة من أهل الفهم بالقرآن، أنه كان أعلم الناس في زمانه بمعاني القرآن، وأنه قد أوتي فيه فهما، فلو كنتُ عرفتُه للزمتُه. قال داوود: ورأيتُه يتأسف على ما فاته منه.
وأنا بعد حمد الله وشكره على كل حال، أتأسف على ما فاتنى من شيخي فضيلة الدكتور: عبد الحق يدير، الذي رحل عن دنيانا الفانية يوم الأربعاء الماضي، قبل عيد وذكرى المولد النبي الشريف بيوم واحد، وفي رحاب شمس الشهور -ربيع الأول- 1442، ونعاه أعضاء مختبر: العلوم الشرعية والقانونية وقضايا العصر، بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، في المملكة المغربية الشقيقة.
لقد بهرنى هذا الشيخ العلامة -رحمة الله عليه- خلال أزيد من سنة فقط من صحبته، بعلمه وهديه وعقله، والذي علا ذكرُه في جامعة سيدي عبد الله بن عبد الله بفاس، وارتفع قدرُه في الأوساط العلمية والمعرفية بفضل تلامذته وسمته، ونشرِه ورفقه.
إن جاز لى أن أصف أو أصنف المرحوم، فأحسبه: جملةَ رجال في رجل واحد.
رصدتُ في فضيلة الشيخ صفات نادرة، من غزارة العلم، وخصب الإنتاج، وتنوع القدرات، وسعة الأفق، والقدرة الفائقة على خدمة العلم وأهله وحملته.
كنتُ أُكْبِرُ في الرجل تواضعه، حين يحاول أن يفهمنا بوقاره ولطفه وحلمه، أنه ليس مجرد أستاذنا وراعي مشاريعنا وأعمالِنا العلمية فقط، وإنما محب لشنقيط والشناقطة أولا وأخيرا.
يستهل حديثه معنا ولقاءاته العلمية بالثناء على الموريتانيين، ويقول: أنتم أهل شنقيط العالمة، وبلد المليون شاعر، وأهل العلم والفقه والتقى.
في حدود معرفتي بالشيخ فإنه يمثل صفحة عريضة وغنية من البشاشة والسرور، والتبجيل والمهابة والخشية العلمية، وكان يترفق بنا ويحسن صحبتنا، على مرتبته العلمية، وسنه وشيبته.
ويكفينى فخرا واعتزازا أن أكون أحد تلامذته، والمتصوفة فيه.
إن علماء المسلمين خيارُهم، كما يفيد: ابن تيمية، في كتابه: رفع الملام عن الأئمة الأعلام.
ولابن عباس، قال: أتدرون ما ذهاب العلم، قلنا: لا، قال: ذهاب العلماء. كما للدارمي في السنن.
كان الشيخ عبد الحق يدير، غنيا بما كتب وألف وأرسى من القدوة، وتنوع المواهب والقدرات التي آتاه الله، وسعة الآفاق والمجالات التي تناولها علما وعملا، ودعوة وتعليما.
من كان يظن أن ذلك العالِم العلَم سيغادر دنيانا الزائلة بهذه السرعة، وبهدوء كامل ومُتْقَن.
من كان يظن أن الموت ستسارع لهذه الدرجة بالخيار العدول، الذين انتفع بهم طلبة العلم، وخَلُد أثرُه من خلال رفقه بهم، وعطائه العلمي، ويعيش بيننا نكرات دخلاء، ينشرون التخذيل، ويتكاسلون عن بذل الخير ونفع الناس، وخدمة الحقل العلمي الذي ينتمون إليه.
تميز الدكتور: عبد الحق يدير، بحب العلم وحملته، واستعداده التام لخدمة رواده، وتأطيرهم، وترشيد مسيرتهم.، وكان معجبا بالشناقطة يثني عليهم كثيرا.
وله فضل كبير على أجيال من الباحثين الذين منحهم وقته، وأعطاهم من علمه وفهمه وخبرته، بالإشراف على أعمالهم العلمية، ورعاية إنتاجهم بالجامعة، على أنه كان مخلصا لمسؤوليته، واعيا لدوره ورسالته.
وتقديري أن الشيخ -رحمة الله عليه- كان في أصول الفقه ومقاصد الشريعة والتحقيق في اللسان العربي، أبين اثرا منه في غيرهم من فنون الشريعة الإسلامية الأخرى، التي يتقنُها وكان بصيرا بها.
وتعلم منه الباحثون علم وفقه الفاسيين، وعبقرية وموسوعية المغاربة.
كان آخر عهد بيننا -رحمه الله- عندما تواصلت معه يوم عيد الأضحى المبارك الماضي -قبل أكثر من شهرين تقريبا- للاطمئنان عليه وطلب الدعاء، نظرا لظروف انتشار وباء كوفيد 19، فرد قائلا:"شكرا جزيلا سيدي: عبد المالك، على هذه الصلة السنية، التي أحلها في سويداء قلبي مكانا عليا".
فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ورحمة الله عليه وتقبله في عباده الصالحين، ونَعٌَمَ روحه الزكية في الفردوس الأعلى.
عبد المالك ان ولد حنى.