"سجل أنا عربي!..وإفريقيتي لي لا للأجنبي "..

 

يطالعنا هذه الأيام فى بعض المنصات والمواقع الإلكترونية ، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي سيل من الكتابات والبيانات الحبلى بالسجال والمناكفات حول مسألة اللغة والهوية ، ولاشك أن مايكتب وينشر في أغلبه يعكس جدلا بزنطيا عقيما ؛ لايعدو جعجعة سياسية يثار نقعها كلما عنت سانحة تاريخية للتشاور والنقاش الجاد الرصين حول القضايا الوطنية الجوهرية. 

صحيح أن سؤال الهوية مشغل سياسي محوري وأن إشكال اللغة مبحث ثقافي مركزي ، غير أن طرحهما ونقاشهما يحتاج لسياقات فكرية رصينة ومنطلقات علمية أصيلة ، ومقاربات أكاديمية حصيفة وقراءات معرفية مستنيرة ؛ بعيدا عن لغة التنابز والاستقطاب وخطاب التعصب والاحتراب. 

وفى هذا السياق ندعو نخبنا الأكاديمية إلى التأليف والكتابة ، وإلى تنظيم الندوات والمحاضرات ، وفتح النقاشات والحوارات دون خجل أو وجل..أومحاذير وتابوهات ؛ ليصغي بعضنا إلى بعض ، وأنا على يقين بأن الاختلاف الخلاق!..هو الذى ينتج الإجماع والاتفاق. 

نحتاج من المؤرخين إلى البحث التاريخي فى العصور ، ومن علماء الاجتماع إلى التحليل السوسيولوجي للجذور ، ونحتاج إلى النبش الآركولوجي للآثار والتأمل الأنتروبولوجي لتاريخ المقولات والأفكار ، ونحتاج من الساسة وقادة الرأي - إلى أكثر من ذلك - أن يؤمنوا بصدق وإخلاص وحسن نية بحتمية العيش المشترك ووحدة المصائر والأقدار. 

ألا نملك - بكل مكوناتنا الوطنية - كينونة حضارية راسخة ومكينة على هذه الأرض؟..أليست لدينا ثوابت دستورية صلبة ومتينة لبناء دولة وطنية مدنية معاصرة؟..ألسنا جمهورية إسلامية ؛ عربية وإفريقية؟..

أجل.. إن تنوعنا الثقافي وتعدد لغاتنا وقومياتنا هو مبعث عزة ومنعة ، وعامل ثراء وقوة ومصدر تلاحم ووحدة ؛ شريطة أن لانقبل الاغتراب و الاستلاب الحضاري وأن نرفض كل مظاهر التدخل الكولونيالي والاستعمار الثقافي. 

ليست لدينا مشكلة مع اللغات العالمية والمعارف والعلوم الإنسانية ، فلامندوحة عن الانفتاح عليها وتعلمها وفق ضوابط تربوية عقلانية واستراتيجية بيداغوجية مدروسة ، يجمع عليها خبراء التعليم والتربية من جميع المكونات والحساسيات الوطنية. 

نتمتع بخصوصية سوسيولوجية فريدة انبثقت من رحم تراث باذخ من العيش المشترك والتلاقي الحضاري بين عمقنا العربي الإسلامي وبعدنا الإفريقي ، وتلك هي ملامح هويتنا التى يعبر عنها ببعديها العربي والإفريقي شاعران كبيران هما محمود درويش ومحمد الفيتوري. 

فلاشك أننا نجد ذواتنا حين ننشد مع محمود درويش هذا المقطع من قصيدته " بطاقة هوية" :

سجل أنا عربي!
أنا اسم بلا لقب 
صبور فى بلاد كل ما فيها
 يعيش بفورة الغضب 
جذوري...
قبل ميلاد الزمان رست
وقبل تفتح الحقب 
أبى من اسرة المحراث 
لا من سادة نجب 
يعلمنى شموخ الشمس قبل قراءة الكتب 
سجل..أنا عربي!...

وكذلك نجد جزء من هويتنا حين نتغنى بإفريقيتنا مع الشاعر السوداني ؛ محمد الفيتوري فى هذا المقطع من قصيدة  "أغاني إفريقيا " :

أنا زنجي وإفريقيتى لي 
لا للأجنبي المعتدى 
أنا إنسان ولى حريتى 
وهي أغلى ثروة من ولدى 
أنا فلاح ولى أرضي التى  
شربت تربتها من جسدى 
أنا حر مستقل البلد...
وسأبقى مستقل البلد!...

هذا الاستقلال الذي عبر عنه " الفيتوري" هو مربط الفرس وبيت القصيد ، وينبغى أن نتشبث به جميعا من أجل تمكين هويتنا العربية الإفريقية وتحصين خصوصيتنا الثقافية والحضارية ، من أجل الوقوف سدا منيعا في وجه المحاولات اليائسة للنيل من لحمتنا الوطنية ، والتصدى الحازم لثقافة الغلو والكراهية وخطاب التطرف والعنصرية بفكر ثاقب ورأي صائب ؛ يؤسس لقيم الحوار والتشاور باعتبارها أنجع السبل لتحقيق مصالح الإنسان وتنمية الأوطان. 

والله نسأل أن يحفظ بلدنا من الفتن والمحن ؛ ماظهر منها وما بطن ، وأن يديم علينا نعم الأمن والإخاء والسلم والرخاء.

د.محمد ولد عابدين 
أستاذ جامعي وكاتب صحفي

أربعاء, 03/11/2021 - 00:59